العميد دكتور أبو هاجة يكتب قصة قصيرة بعنوان : ليتني ما سألتها!!..

الخرطوم :مرايا برس

تفرقنا في دروب الزمن الأغبر بعد جوار دام سنينا عددا . يجمعنا ذلك الحي المسكون بالحيوية والتعاون والوئام والمودة ، وكأنما الجيران أسرةً واحدةً يصل بينها ود معافى من عذابات المحبين الجدد .. أواصر لحمتها وسداها إيثار لا تداخله ضروب المصالح الزائلة ، ولا المجاملات المظهرية الزائفة التي تماثل ( البندورة) إذ يسرف راعيها في سمادها فتتضخم زيفاً كما بالونةٍ حمراء كبيرة تنتفخ حد الفرقعة .. ضخمةٌ ومتوهجة الإحمرار لكنها بلا نكهةٍ ولا مذاق …
عند الباب وبعد قرعه قبيل دقائق من موعدي المضروب معه ذات صباح خريفي.. هرولت آية الصغيرة مسرعة وفتحت الباب. طفلة لم تتجاوز التسعة أعوام خرجت الى الدنيا تتوسط أخوتها في الترتيب روحها براءة ، وحركتها دؤوبة وذكاؤها يشع من عينيها كأنها فراشة تحلق فوق أزهار جزيرة جدي نواوي ..
إنفتح الباب وأشرقت آية وعلى الوجه الصبوح سُوَرٌ من طفولةٍ تسائل الزمان في دعةٍ إلى أين يحملها في غده وتظل إجابة السؤال عالقةً في ابتسامةٍ صبغت الوجه الطفل بالأمل والتفاؤل … باغتتني مباشرة بسؤال مفاجئ : (حلا) وين ؟
وهي تشير لنظيرتها أبنتي الصغيرة ومن أترابها اللائي كن كحبات العقد لا يتكامل أزلا إلا بهن .. ممراحٌ مزاجه ألعابهن وصخبٌ جميلٌ ما يزال يتردد في زوايا المكان .. جيئة وذهاباً وركضاً ما بين دكان موسى وصحن حوش عبدالرحمن الواسع الذي تترامى مساحته مد البصر وكأنه ملعب كرة قدم …
حملتني حملاً لذلك الزمان يا رعاه الله.
– حلا موجودة لكنها مشغولة بالإمتحانات ، بعد تخلص سنزوركم بإذن الله.. أجبتها في غضون عودةٍ لزمان ( جاده الغيث إذا الغيث همى ) ..
في الطريق نحو الديوان تقع عيناي على حوائط الجالوص المتآكلة من ضربات أمطار الخريف عبر السنين لكنها ظلت صامدةً تقاوم هي الأخرى بظهرٍ مكشوفٍ وقد حرمته الفاقة غطاء التبن (الكركـ) ، ولولا صوت البشر لقلت أن المنزل بقايا أطلالٍ سبقني إليها فتى كندة ، أو أنها دارٌ ( مسكونةٌ ) اعتزلها البشر ..
في الجانب الأيسر سدرةٌ تبدو شاحبة بائسة رغم رذاذ الخريف ، فيما شهرت أشواكاً شديدة البياض وكأنها أنياب مفترس ، وفي الجانب الأيمن تنام عربة ( كارو ) بالية وقد أحالت إطاريها مزقاً هجائر الشمس المتتالية وما غدا منها سوى تلك المِزق ، وكأنها تصبو لقطرات الخريف علها تعيد الأيام الخوالي بعد ظمأً وضيق .
عصام العصامي عاجلني رافعاً عقيرته كالعهد به ؛
… أتفضل يا جنابو أتفضل الصالون فاتح ..
أخذت مجلسي وآية تلقي السؤال تلو السؤال وهي تتلقى ردودي في فرحٍ طفولي غامر . وتارةً تتأمل في ردي ، وأخرى ترد بقوة ملاحظة بها من الدقة والتركيز ما يتجاوز عمرها بسنوات.. حركتها وسكونها تنبئ عن ذكاء حاد مبلغ أن تدرك من الوهلة الاولى أن ثمة مستقبل زاهر ينتظر هذا التوقد الفطري ، وتظل بين كل حركة وأخرى تنظر لبزتى العسكرية وقد تأخذ ( البوري) ثم تضعه على رأسها .
– إنت شرطي؟
ولقد لاحظت أن غالب أطفالنا يربطون الكاكي بالشرطة ، وربما لإرتباط الشرطة بالعامة..ولقد كنا حتى وقت قريب نسمي الشرطة ( الحكومة) وهي عادةً محل إحترام يظل الحفاظ عليه قيمةٌ مقدسة … فجأة انتبهت لوجودها في المنزل رغم أن اليوم يوم دراسي وليس ثمة مانع واضح يمنعها من التواجد بالمدرسة ، مما دفعني للتساؤل ؛
– يا آية أنت ما عندك مدرسة اليوم.
أجابت: أنا ما مشيت للمدرسة لأن أبوي ما قدر يدفع لينا كلنا رسوم الدراسة .. دفع لمحمد وعمر وآمنة والباقر وقال أنا وماجد السنة الجاية يعني السنة دي مافي مدرسـة.
هكذا أجابت بتلقائية وكأنما هو سؤال عادي عابر .. وكأنها لا تدرك حجم الضرر من خصم عام كامل من عمرها الدراسي بسبب الرسوم .. ولربما أنها لا تدرك فعلياً حجم المأساة …
ترى ماهو إحساس المرارة في قلب والدها بل في قلبها البرئ الصغير عندما ترى أترابها يخرجن صباحاً الى المدرسة؟ .. شطرتني إجابتها لنصفين ، ليتنى ما سألتها .. ما الذي جرني نحو تخوم فجيعةٍ تروي فصول هذه الدراما السوداء !.. أى ذنب جنت هذه الفراشة حتى يضيع مستقبلها بمتاريس الفقر اللئيم والفاقة الكالحة ويكبت براعم الطموح وطلع الغد المنشود !! .. وأي ذنب جنته آية ليذوي الأمل فى قلبها وعينيها المتقدتين ذكاءً وألقاً وفطرة سليمة!… أي حظ وأي قدر ينتظر أطفالنا البؤساء؟.. لماذا ترتهن أحلامُهم لسياسات الجشع والجور والقبور : كان المذياع حينها يحدث عن خطابٍ يتوعد الفقر مردداً ( سنجتثه من جذوره ) .. يا ترى متى تقوى عزائمنا لنقاتله معاً قتالاً شرساً ضارياً يزيحه من حياتنا الى الأبد ليت ضوءا يلوح … في آخر النفق … ضوءٌ يعيد آية الى مدرستها ، ويستبعد المال كعائقٍ في طريق التعليم الى الابد ..
ضوءٌ نؤكد عبره حقيقة أن الإنسان هو الأغلى من كل ما عداه ..
ضوءٌ يقضي على شراهة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ويبعد وإلى الأبد السطوة الطفيلية التي تقذف بمصائرنا وفلذات أكبادنا في غياهب المجهول وتئد عبقرياتنا البريئة في مهدها ، وتفسح المجال واسعاً لظلامٍ دامس يغطي كل سماوات الوطن الجريح ..
ليتنى لم أسأل آية … ففي قصتها آيةٌ وعِبرةٌ وعَبرة .

صورة تعبيرية

تعليقات
Loading...