د. هبة بت عريض تكتب : ثقل التاريخ السياسي وأزمات الانتقال نحو الديمقراطية. 

الخرطوم :مرايا برس

السودان بين مقارنة الأيديولوجيا والتوصيف السياسي، و من الدولة الاستبدادية إلى الدولة الواهنة والي أين نحن ذاهبون !!!. 

يُفترض لفهم ذلك إعادة الغوص داخل التاريخ السياسي للسودان الدولة سعيا نحو الكشف عن تمظهرات الفعل السياسي وتنظيراته وتسليط الضوء على أزماته والتي هي بالأساس أزمات الدولة .
فمن دولة استبدادية مثقلة بإيديولوجيا التسلط إلى دولة واهنة تتميز بكثافة التنظير ومحدودية الفعل وصراعات التموقع، يتموضع الحدث الأبرز الذي انعطف بالفعل السياسي نحو إثقال تاريخ وحاضر الدولة بأزمات خارقة لجدار الصمت الديمقراطي الذي شيدته دولة الاستبداد، لكنه في ذات الوقت أصبغ نوعا من فوضى ديمقراطية غير خلاقة أجبرت الجميع على إعادة التفكير في محتوى الديمقراطية وشكل الدولة ذاتها .
فكيف نفهم أزمات الانتقال نحو الديمقراطية في ظل دولة واهنة مثقلة بتاريخ سياسي لدولة مستبدة؟. 
إن البحث في التاريخ السياسي للسودان هو شكل من أشكال إعادة كتابة لهذا التاريخ ذاته بشروط اللحظة التاريخية المرادفة لزمن الحدث المكتوب، بمعنى أدق، استعراض لحدث سياسي في سياقه العام دون الانعطاف بالشرط الموضوعي نحو المقاربة التاريخية والتي يصعب معها الفصل بين الذاتي والموضوعي. فدولة الاستبداد هي موضوع تأريخ سياسي يحتمل أشكالاً عدة من التوصيف ويرتهن إلى أنماط متعددة من المقاربات المنهجية، لكن المشترك هو ما يمكن تسميته بتاريخ الاستبداد السياسي للدولة. هذا التاريخ الثقيل والمثقل لكاهل الفعل السياسي لازال يلقي بظلاله على ممكنات البناء والتجاوز في العلاقة بفعل التأسيس لدولة ديمقراطية.
دولة الاستبداد هي صورة لدولة فائضة في القمع والبيروقراطية وهى دولة انعدام الشرط الوطني المضمن في عقد التأسيس الاجتماعي للدولة، ألا وهو شرط المشاركة والفعل السياسي وفسح المجال للآخر من خارج آلة الدولة، هي دولة المحجوز الفكري والإيديولوجي المتمم للركن المادي لجريمة خرق حرمة الحزب الواحد والزعيم التاريخي. لذلك سوف يتأسس تاريخ هذه الدولة على خيارات سياسية تختزل في رأى واحد، وفي قطيعة تنظيمية وسياسية مع السلطة  الموصوفة بالقمع والتسلط وفي محاولات لخرق فضاءاتها المعسكرة والمغلقة في وجه الآخر المعارض.
لذلك سوف يقتصر الفعل السياسي على جانب المعارضة النخبوية بخطاب موجه ضد السلطة يختزل ممكنات التطور والتأسيس الجديد في تغيير شرط الفعل السياسي دون الحديث على تغيير ميكانيزمات اشتغال الدولة التي أصبحت واهنة بفعل الاستبداد.
من هذه الزاوية تبدأ تمظهرات الأزمة في الظهور بشكل جلى، حيث أسست دولة الاستبداد بمخرجاتها المتمثلة في الدولة الواهنة والفاعل السياسي الغير متدرب جيدا على ممكنات الفعل والتأثير السياسي، لأزمات بنيوية حادة لم تتمكن لحظة الانتقال نحو الديمقراطية من سد ثغراتها أو تجاوز مشكلاتها رغم أهمية اللحظة وخطورتها.
لذلك تمظهر تاريخ الانتقال نحو الديمقراطية كتاريخ أزمات منها ما هو هيكلي ومنها ما هو بنيوي، لكنها تشترك في نقطة ارتكاز مهمة ومحددة وهى مراكمة العجز على التخلص من مخلفات تاريخ دولة الاستبداد على جانب الخطاب والممارسة وبناء الحدية الأيديولوجية والقطيعة مع شريك الأمس واليوم من فاعلين سياسيين، وكأن دولة الاستبداد لازالت تتحوز على هوامش فكرية مهمة وتتمظهر  كحل لفض إشكالات دولة الانتقال نحو الديمقراطية .
من هذا الجانب نفهم أزمات الانتقال نحو الديمقراطية ليس كلحظة انتقالية نحو دولة غير مستبدة، بل كمرحلة تأسيسية لدولة لا تلغي تاريخها السياسي رغم أزماته بل تستثمره من أجل إعادة الاعتبار للفعل السياسي ولكن هذه المرة بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد، وتتعامل مع لحظة الأزمة بعقل الدولة المبدع من جانب استثمار تلك التصدعات من أجل تكريس خيارات الشعب المعبر عنها بإيديولوجيا الحزب وتكتيكات الفاعل السياسي .
إن الانتقال نحو الديمقراطية يتجاوز حدود التأسيس القانوني والمؤسساتي نحو بناء أسس مفاهيمية جديدة ترسم علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية مغايرة لما هو سائد في دولة الاستبداد، وهذا أهم أزمات الانتقال نحو الديمقراطية فالسائد هو صراعات التموقع وغياب البرامج الحزبية والتواصل المباشر مع المعنِي الأول بالانتقال الديمقراطي وهو الشعب .
 وأثرت على الفاعل السياسي الذي تعامل مع  مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية دون أن يعي بأنه قد وقع القطيعة مع شروط الفعل السياسي المميزة لدولة الاستبداد. لذلك سوف تبقى أزمات الانتقال نحو الديمقراطية بمثابة الزائدة السرطانية التي تستهلك إمكانيات الديمقراطية وتغتال ملكات التأسيس الجديد للدولة طالما لم يستوعب الفاعل السياسي بأن الدولة هي دولة الشعب وليست دولة الرغبة أو الطموح المختزل في انتصار انتخابي قد لا يصمد بضعة أشهر.
(لا شيء يتفوق على قسوة الذين يصنعون من مصائبنا مواعظ للآخرين). 

تعليقات
Loading...