د. هشام عباس يكتب :الداخلة قريتي.. كائن ينبض بالمشاعر.

الخرطوم :مرايا برس

هناك عند الملتقى، يعانق النيل الوقور هدر نهر عطبرة المتدفق …عناق شوق ومحبة…عناق عنفوان بعد رحلات طويلة من التجوال والتطواف …في هذا المكان دارت حكايات وقصص وحكاوى …رحل جيل وجاء جيل ..وبقيت هنا حضارة انسان تشربت بماء النيل العذب …هنا في (الداخلة) العريقة إنسان (نخلة) عزة وكبرياء وعطاء واصالة وشموخ…انسان تنبع منه أنهر الجمال فيغرق السوح روعة وبهاء، أنسان تشكلت منه جينات المحبة والروعة والحيوية والذوق الرفيع…هنا في هذا المكان في الداخلة العريقة تنسج القيم سياجاً من الانسانية مكتوب على ديباجتها (صُنع في الداخلة) …عندما تشح بضاعة الجمال في العالم فإن النفس البشرية الرائعة تستورد من الداخلة المواد الخام للكرم والشجاعة والاقدام …أشجع الرجال في قريتي…أنبل الرجال فيها…أروع النساء هنا….في الداخلة.
عندما تذهب إلى(نبرو) تشعر أنك ذهبت إلى عالم الحب الجميل …وتحس أنك سجلت زيارة إلى كائنات خاصة تتدفق انسانية خالصة، الكرم في (نبرو) حالة تتلبس الجميع ، والشهامة حقل أخضر في شوارعها وبيوتها، في زمن الصبا كنا نأتي إلى( نبرو) للسباحة على شاطئ الخلاوي ونمارس( الطلوحة) عبر النيل مع التيار شمالا ونمر عبر محطات في شاطئ الداخلة محفورة في ذاكرتنا ،كنا نسبح من الخلاوي إلى الشجرة، ومن هناك إلى ( الجابية) ثم (العتبة) ومن العتبة الى الكونية ثم إلى البابور والشلال حتى حلة نواوي ……وعندما نريد ممارسة المغامرة وإبراز مهارات السباحة فإننا نسبح إلى جزيرة نواوي وسط النيل، وقبل أن نصل إلى هناك نستريح في حجر( دودو) …وهو صخرة تظهر على سطح النهر لا يستطيع إلا الماهر منا الوقوف عليها ….أنا فشلت مراراً في الوقوف هناك ولكن تمكنت مرة في الوقوف وظللت أحكى ذلك افتخاراً حتى ملً من ذلك الاصدقاء.
كان موسم (البلح) أيام لها طعم خاص …موسم لترك المنازل والمقيل تحت دوح النخيل المتدلي منه التمر ….كنا نحفظ النخل ، نخلة. نخلة ، إسمها وطعم تمرها …كنا نحتفى( بالدُفيق ) ونستمتع( بأبراس) ….كان جدى الحاج محمد أحمد حمزة مولعاً بالنخل والزرع والمياه…ويملك خراف من نوع خاص …يخلق معها علاقة مشحونة بالإحساس حتى أن حملاً صغيراً ظل يلازمه في غدوه ورواحه إلى زراعته، وأتذكر يوم ذبح هذا الحمل هرب جدى من المنزل ولم يتناول الطعام ،وشعرنا بالندم بعد أن استقر لحم هذا الخروف في أمعائنا…كان جدى يكافئنا أن يصحبنا إلى تمرين في السباحة إن ساعدناه في الزراعة …أخذنا إلى النيل مرات ومرات …على يديه تعلم الكثير من أبناء جيلي السباحة.
الداخلة كائن حي ينبض بالمشاعر ويفيض بالدفيء الساحر …فيها توزيع نادر للأدوار …أناس أعطاهم المولى موهبة الأنس والظرف ورسم الابتسامة على شفاه الآخرين ، وأناس آخرين يبذلون يومهم زيارة للأرحام وتفقداً للأهل والجيران ، وأناس بعربة إكرام الموتى يحملون في عزة وصدق نعوش أهلي إلى مثواها الآخير ،ما يرجون إلا ثواب المولى ….وبعضهم هناك في سوق الداخلة يخلقون مناخاً خاصاً من المرح اللطيف والدعابة البريئة …ولو كنت طبيباً نفسياً لكتبت في روشتة لمرضى الاكتئاب النفسي أن يقضوا يومياً ساعة في سوق الداخلة …..في هذا السوق يباع الحب والابتسامة وسلع الضحكات الجميلة دونما مقابل، إنهم يمارسون أعظم تجارة، هي تجارة راحة البال والترويح عن النفس
هناك في الداخلة تحت شجر (الحراز) الكبير ، شجر آخر من الإيمان الصادق وتاريخ طويل ملئ بالصلاح والقرآن والصلوات …في حلة نواوي تهبط إليك الراحة النفسية دون مقدمات كأنك داخل إلى مناسك حج أو عمرة ، هي قطعة مقدسة وأراضي محررة من أمراض النفس ، هنا ينتظرك في وقار وصلاح مولانا الشيخ إبراهيم نواوي ذلكم العابد الزاهد…حلة (نواوي) جوهرة ساطعة في الداخلة.
في خاطري هذه الصور الاجتماعية والداخلة هذه الأيام عبر تجمع الوفاء للداخلة تعلن النفير من اجل التنمية في ملحمة تستحق التوثيق لتكون كتاباً للأجيال القادمة ، صور تستحق أن تطبع في الذاكرة، صور الرجال والنساء والشباب وحتى الاطفال وهم يضعون لافتة النظافة والتنمية والتعمير .إن الجديد في هذه النهضة أنها اهتمت بالجانبين التعميرى والاجتماعي، وشاهدت وأنا بعيد عن هذه الملحمة صوراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي تظهر زيارات الشباب للآباء والامهات في منازلهم ، إن هذه الصور وصل لما تركه لنا الآباء والأجداد الذين جعلوا من الداخلة قرية مجتمع مدنى فكانت المساجد والأندية والزوايا والمدارس بجهد شعبي خالص،وكانت تاريخ القيادة للمنطقة عبر المرحوم العمدة السرور السافلاوي ، وهاهم الأبناء يسيرون على الدرب ويقولون للأسد أنً الشبل موجود.
اكتب ذلك والقلب معكم هناك في الداخلة أمام نادى الوطن والوادي والأهلي والجيل والنجوم والقوز وفى الذكرة دائما المجد والرماح…القلب معكم هناك في مسجد العمدة السرور بدوحه الظليل وصوت العم عبد الله عبد الرحمن (بلال الداخلة) يصدح بصوته العذب في الآذان…القلب هناك مع شيخ منصور نواوي وجلسات عقد القرآن وصلاة العيد…القلب هناك في مسجد التقوى وخطب الأستاذ مصطفى بابكر…القلب هنا في الداخلة مع قفشات الصديق العزيز عارف البدوي ،القلب هناك أمام منزل (جُرى) في منتداه اليومي المسائي الذى يمثل أصالة أهلي بالداخلة …المشاعر كانت معكم إخوتي في كل زيارة وفى كل دار…
اكتب اليكم وفى الخاطر تحية خاصة للمرأة بالداخلة تلكم المثابرة الرائدة الواعية المتقدمة الصفوف وعبرها التحية للداخلة الوفاء .

تعليقات
Loading...