عادل عسوم يكتب :مولد النور (1-4)

الخرطوم :مرايا برس

تألق الكون بالبشرى على ظمأ

بمولد النور فانجابت به الظلم.

غنت بمكة أطيار الهدى طربا

يردد السجع فيها البان والعلم.

إنه النور الذي أخبر به ربنا جل في علاه حيث قال الله تعالى:

{…قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15 ،16

 لقد أطلق الله سبحانه تعالى النور في كتابه الكريم  على نفسه، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى القرآن، وعلى الهداية والايمان، وأطلقه على الأكوان.

وقد صف الله سبحانه القمر فقال {قمرًا منيرًا}، وحين وصف الشمس قال {سراجًا وهاجًا}، أما حين وصف الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وداعيًا إلى اللهِ بإذنه وسراجًا مُنيرًا}!، لقد جمع له الله تعالى بين الوصفين ليكتمل الجمال بالجلال، وليلتحم الضياء بالنور فيشرق للعالم كله…

ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نور ليس في ذاته، ووصف الله له بالنور يعني نور الهداية لا أنه خلق من نور كما ورد في بعض الأحاديث، وهي (كلها) اما موضوعة او ضعيفة.

قال الله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الكهف110.

وما أكثر مناقب نبينا صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ من آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر). أخرجه مسلم.

كما أخبرنا أيضا صلى الله عليه وسلم (بأنه أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأول نبي يقضى بين أمته يوم القيامة، وأولهم جوازا على الصراط بأمته، وأول من يدخل الجنة بأمته، وهو الذي يشفع في رفع درجات أقوام في الجنة لا تبلغها أعمالهم، ويشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيخرجهم منها).

نبيّ بهذه الصفات وبذه المنزلة ، ينشغل الناس بالاختلاف حول كون الاحتفال بمولده بدعة أو لا، والاحتفاء الحقيقي حري به أن يكون بالمنهج الذي أتى به وهو الذي أسماه الله نورا، وهناك ما هو أخطر من الخلاف حول الاحتفال بالمولد ، انها الرؤية السائدة التي تخرج الرسول الكريم عن أعظم ما فيه، وهو فعله كل ما فعل (بجهد بشري) استحق التأييد الإلهي ليكون القدوة التي يقتدي بها كل مسلم، عوضا عن رجل خارق لن يفكر أو يستطيع أحد الاقتداء به، فلم تنطفئ نار المجوس بمولده عليه الصلاة والسلام، ولم ينشق إيوان كسرى، ولا حتى انتكست الأصنام، كل الاقوال التي حكت عن ذلك لم تثبت، وكل ما قيل بأنها أحاديث لم تتجاوز مرتبة الضعف أو الوضع. 

ولنعلم أن كل المعجزات التي ذكرت قد حدثت بالفعل لاحقاً نتاجا لسيرة حياته الشريفة والمليئة بالجهد والعمل والفعل،

نعم لقد أنطفأت نار المجوس، وشقَّ إيوان كسرى، وانتكست الأصنام على يديه، ولكن لم يحدث ذلك بمولده صلى الله عليه وآله وسلم، بل من خلال حياته الذاخرة وسيرته العطرة التي ينبغي لنا الانكباب عليها بمحبة واجلال لنسبر غورها ونتعلم منها الكثير.

فهل سألنا أنفسنا يوما: لماذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم يتيم الأب؟!

ظللت أسائل نفسي زمانا عن الحكمة في أن يولد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فاقداً لحنان الأب وصحبته!

وتساؤلي ليس من باب التحرج من قضاء لله سبق، لا والله، إن الله يأمرنا بأن لايكون في أنفسنا حرج من قضاء له، وقضاء الله كله خير وان بدا لنا ظاهره بغير ذلك أحيانا.

إذاً، لماذا حُرِم الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نعمة التمتع بحنان الأبوة؟!

لقد بحثت عن الحكمة في ذلك في جل كتب السيرة -إن لم يكن كلها- بدءا من  سيرة إبن هشام، فلم أجد فيها بغيتي، ونحوت إلى الذهبي، وكذلك إبن كثير، فلم أجد لديهما مايجيب على تساؤلي، ثم عرّجت إلى كتابات الغزالي الصغير، والبوطي، والغضبان، والسباعي، والصلاّتي، ثم المباركفوري في الرحيق المختوم، فلم أجد ضالتي لديهم جميعا رحمهم الله…

ولكن قدّر لي بأن أتلّمس خلال استماعي إلى الراحل الشعرواي رحمه الله خيطا أفضى بي الى رؤيتي هذه ومفادها الآتي:

الأب -دوما- هو المشكِّلُ لوجدان ابنه فكريا وثقافيا ودينيا، وذاك أمر تسنده الكثير من الأحاديث الشريفة والأقوال والأمثال:

1- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(حدثنا  آدم  حدثنا  ابن أبي ذئب  عن  الزهري  عن  أبي سلمة بن عبد الرحمن  عن  أبي هريرة  رضي الله عنه  قال  قال النبي  صلى الله عليه وسلم  كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها  جدعاء).

2- بيت الشعر القائل:

وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه

3- المقولة:

من شابه أباه فما ظلم.

تلك أمثلة، وهناك الكثير من الأقوال والأمثال الأخرى التي تتحدث عن ذلك…

وإذا بي أجد ملمحا من ذلك في قصص كل من قرأت قصصهم من الأنبياء والرسل!

فلم يتحدث القرآن عن رفقة للرسل والأنبياء لآباء لهم لم يكونوا على دينهم، إلا في حالة إبراهيم عليه السلام، لكنني ركنت إلى ترجيح الشيخ الشعراوي بأن آزر كان عمه وليس والده بمبررات مقنعة جدا. 

وعندما تزوج عبدالله بن عبدالمطلب -والد نبينا- من آمنة بنت وهب- والدة نبينا- ما كان الإسلام قد تنزل بعد، أي أن الوالدان لم يكونا مسلمين، فإن كان قُدِّرَ لنبينا أن يولد في كنف أبيه عبدالله حينها؛ لتأثر -من خلال النشأة في كنفه- بالكثير من رواسب الفكر والثقافة والدين مما كان يسود في مجتمع قريش، ولم يقتصر الأمر على حرمان نبينا لأبيه، إنما كان قدر ربنا أن لايعيش المصطفى عليه صلوات الله وسلامه -أيضا- في كنف أمه كثيرا!

فقد أخذته حليمة السعدية، وظل معها إلى أن بلغ السادسة ويرعى الغنم في مضارب بني سعد، والبادية -دوما- تكون أقرب الى الفطرة منها عن الحواضر، وقد قدّر الله بأن (تتأبّى) حليمة -التي أحبت رضيعها الذي وجدت (فيه ومنه) الكثير من البركات من أن تعيده الى أمه آمنة التي طلبت إرجاعه إليها مرارا؛ فإذا بحليمة تقنعها بأفضلية نشأة الصبي لديها  حرصا على صحته وعافيته، فما يكون من آمنة الاّ القبول بحجج حليمة!.

وخيط شيخنا الشعراوي رحمه الله الذي ذكرته سابقا، كان في سياق بعض خواطره خلال تفسيره لآية في سورة العنكبوت:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}.

قال الشعراوي رحمه الله:

القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا باسم الله سبحانه وتعالى ـ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى ـ وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية.

ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: {ٱقْرَأْ}.واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه، وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه، وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.

نقول إن الله تبارك وتعالى كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة، لأن كل البشر يعلمهم بشر، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى ليكون معلما لأكبر علماء البشر يأخذون عنه العلم والمعرفة.

إنتهى قول الشيخ الشعراوي رحمه الله.

وقول الشيخ تعني أن أمية نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله تشي بصحيفة بيضاء ووجدان لم تسوّد نقاء فطرته أخلاط لأفكار وثقافات تتخللها الاعتقادات الوثنية وكتابات أحبار ورهبان اليهودية والنصرانية المحرفة حينذاك، هذا الذي ساقني إلى التفكير في بصمات وآثار كان يمكنها تشكيل وجدان نبينا إن قُدّر له صلى الله عليه وسلم صحبة والده الراحل عبدالله بن عبدالمطلب، لذلك كان قدر الله أن يبقى وجدان نبينا -منذ ميلاده- (نقيا) مكلوءا بعين الله ورعايته، ووالداه كما يجمع العلماء هما من أهل الفترة، (واهل الفترة هم الذين لم يبعث إليهم رسول ولا نبي، ولم يتبعوا أحد الأديان السماوية السابقة)، وهما بعدل الله ورحمته في الجنة ان شاء الله كما قال بعض العلماء، وان كان هناك من احتج بالحديث الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن والده (ان أبيك ؤأبي في النار، وكذلك الحديث الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم عن أمه (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أنْ أسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، واسْتَأْذَنْتُهُ أنْ أزُورَ قَبْرَها فأذِنَ لِي)، إلا إن عدد من أهل العلم ردوا الحديثين، ومنهم جلال الدين السيوطى الذى ألف ثلاث رسائل فى رد الحديثين كان أشهرها رسالة (التعظيم والمنة فى أن أبوى رسول الله فى الجنة)، ومنهم القاضى ابن العربى تلميذ مالك (وليس ابن عربي الصوفي)، حيث قال بجرأة عندما سُئِل عمن يقول إن أبوى النبى فى النار قال: «ملعون من قال ذلك». والذي أراه أن الله تعالى لقدر نبينا عنده ولرحمة الله وكونه تعالى رؤوف رحيم؛ سيجبر قلب نبينا بجعل ابوي نبينا في الجنة، ولكن نبينا التزم بظاهر احكام الاسلام على من لم يسلم فأبان لنا مايرتهن بذلك والله أعلم.

والشاهد هنا ان الذي لم تصله دعوة الاسلام ومافيها من مفاهيم وتعاليم؛ يبقى لوجدانه وصل بما حوله من مفاهيم سائدة تشكل افكاره وترسخ يقينياته وان عصمه الله من عبادة الأوثان، وقد عرفت قريش وتبينت بأن الاسلام أتى بجماع مفاهيم تخالف جل ما يسود فيهم ان لم تكن كلها، وان كان الاسلام -حينها- خاليا من الشعائر التعبدية كلها، حيث لم تفرض الصلاة إلا قبل هجرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بعام ونصف، بينما فرضت بقية الشعائر من صوم وحج بعد الهجرة الشريفة بسنوات، وهنا أيضا يمكن الرد على اليسار من شيوعيين وبعثيين ممن يتحدثون للناس بأن الاسلام ليس سوى (علاقة شخصية) بين العبد وربه ليغزلوه في الخلاوي والمساجد وصدور الناس لتخلو لهم الدولة ليطبقوا فيها رؤى ماركس ولينين في الاقتصاد والسياسة ورؤى ميشيل عفلق في الاجتماع.

 وشاء الله أن يفقد نبينا اباه قبل ولادته لكي لايكون لمشاعر البنوة في وجدان نبينا بصمة وتأثير، وكذلك شاء الله تعالى بأن ترضعه حليمة السعدية وهي من قبيلة بني سعد البكرية الهوزانية العدنانية الأصل، وهي قبيلة استوطنت منطقة الشوحطة جنوب مدينة الطائف، واشتهرت القبيلة بفصاحة أهلها، وقال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك (من أين يأتيني اللحن وأنا من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر)، فأرضعته حليمة السعدية لعامين، ثم اعادته إلى امه آمنة بعد انقضاء أجل الرضاعة المعلوم وهي تمني النفس بأن تعيده أمه إليها، فإذا بها تعيده إليها خشية من حمى كانت سائدة في مكة، ليبقي الحبيب في دار سعد حتى بلغ السادسة، وخلال ذلك حدثت له قصة شق الصدر التي سنتحدث عنها لاحقا ان شاء الله، وبذلك قدر لنبينا صلى الله عليه وسلم أن ينشأ بعيدا عن تأثير ابويه.

صلى عليك الله يا نبي الهدى ماهبت النسائم وماناحت على الأيك الحمائم.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبدالله و آله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. 

(في المقال التالي، سنتحدث ان شاء الله عن وفاة أمه وهو ابن ست سنوات).

[email protected]

تعليقات
Loading...