عثمان الشيخ يكتب:المصالحة الوطنية أسرار وخبايا 6

تداعيات:مرايا برس

تضافرت أقدار كثيرة لإنجاح المصالحة الوطنية منها صدق نوايا كل الأطراف الراغبة في إنفاذ المصالحة مع الفطرة السودانية التى تميل إلى السلام و تمقت القتال و الحرب ثم عزوف دول الجوار عن التدخل فى الشأن السودانى الداخلى و التى عرفت انها اُقحِمت من غير إرادتها فى الشأن السودانى .

صمم تنظيم الإسلاميين المصالحة الوطنية ، و قتلوها بحثا و تشريحا و مقاربة و تصويبا. فاضلوا بين ايجابياتها و سلبياتها ، و استوعبوا متطلبات انفاذها المادية والمعنوية و السياسية. تشاوروا استخاروا كثيرا و لما عزموا توكلوا على الله حق توكله و ما خيب الله ظنهم.

لم يكن من السهل التخطيط لهذا المشروع داخل السودان و أجهزة أمن النظام تحصى أنفاس المعارضين  و تضيق الخناق عليهم ، كما لم يكن ميسورا التخطيط في الدول التي  تحالفت معهم و دعمتهم لأسباب ظرفية . فلا المملكة العربية السعودية و لا إثيوبيا و لا الجماهيرية الاشتراكية العربية الليبية هي البلدان المناسبة  لذلك نسبة للحذر الأمني المخابراتي و الهواجس التي كانت تسيطر على كلا الفريقين خاصة و مبادرة المصالحة لم تأت من جانب الحزبين الكبيرين المجَربين ، اما ان يكون المبادر هو الجبهة الإسلامية القومية ، فقد تكون المبادرة ، قفزة في الظلام  .

المملكة المتحدة كانت أنسب مكان للتخطيط و الإعداد للمصالحة الوطنية. اختيار المملكة المتحدة محطةً للتخطيط جاء بتوفيق الله و رحمته و لم يكن مخططا له لأن المملكة المتحدة توفر مقراً آمناً و لسهولة الاتصال و التواصل و لا يعنى ذلك أن هذا التخطيط بعيد عن أعين الأجهزة الأمنية السودانية و البريطانية و الأرجح أن بريطانيا لم تكن تعبأ بالشأن السودانى كثيرا لا النظام و لا معارضيه.

اختار ممثلوا الجبهة الإسلامية القومية رجل الأعمال السوداني المشهور السيد فتح الرحمن البشير ليكون وسيطاً بينهم و بين النظام الذى خرجوا عليه و قاتلوه.

رحب السيد فتح الرحمن البشير بالطرح الوطنى الوفاقي و هذا الموقف النبيل كان  من مفاتيح التوفيق.

 أدرك السيد فتح الرحمن بفطرتة و خبرته الإدارية و حنكته السياسية و حسه الوطنى العالى صدق مقصد الإسلاميين و ان هذا لم يكن  مناورة سياسية لكسب الوقت ، بل كان مشروعاً وطنيا خالصا لحقن الدماء و قفل الطريق أمام التدخلات الأجنبية.

المعروف عن السيد فتح الرحمن البشير توسطه و ميله للصمت كتمانه و حياديته. فكر السيد فتح الرحمن في الأمر كثيرا حينما أولاه ثلثا المعارضة ثقتهم و فوضوه لحسم الخصام و الاحتراب تماما.

اختار السيد فتح الرحمن البشير صديقة الدكتور منصور خالد ، المحسوب على النظام الحاكم ، كان وزير الخارجية ثم التربية و التعليم و الآن مندوب السودان لدى منظمة اليونسكو في باريس علما انه لا تربطه أي علاقة بتنظيم الجبهة الإسلامية و هذا  النبل يحسب للمثقفين السودانيين أي المرونة و عدم التعصب. تربط السيدين فتح الرحمن و منصور روابط قوية و لم يكونا متباعدين فكريا و وطنيا فالأول رجل أعمال حقق اغلب إنجازاته فى عهد النميري و الثانى مثقف و تكنوقراط و وزير من وزراء النظام لذلك كان اختياره اختيارا موفقا ليجد فرصة تتيح للوسيط الإلتقاء بالسيد الرئيس على انفراد . و هذا أخطر منعطف في مسار المصالحة من حيث توخي السرية و توفر الثقة المطلقتين.

شرح السيد فتح الرحمن الفكرة للسيد الدكتور منصور خالد والذي وافق على أن يجمع بين الوسيط السيد فتح الرحمن البشير و السيد رئيس الجمهورية فى باريس مقر منظمة اليونسكو العالمية و التى يصادف اقتراب موعد إجتماع جمعيتها العامة بباريس و التى يحضر اجتماعاتها رؤساء الدول ومنهم الرئيس نميري وهذا كان التوفيق الرباني الثاني.

كانت أكبر عقبة هي لقاء الوسيط السيد فتح الرحمن البشير مع السيد الرئيس نميري من غير أن يمر هذا اللقاء على الأجهزة السياسية و الأمنية. وفق الله السيد الدكتور منصور خالد أن يرتب لذلك بحنكته و دبلوماسيته ما يؤكد  موقفا ساكشفه لاحقا فى ثنايا هذا التوثيق.

غادر الوسيط السيد فتح الرحمن السودان إلى المملكة المتحدة ، و كان ذلك لا يثير أي شبهة لدى النظام لأنه رجل أعمال تتطلب أعماله التنقل خارج السودان و كانت الضوابط الامنية تحكم السفر و تعقده .

كان الوسيط السيد فتح الرحمن يملك إقامة فى بريطانيا بصفته رجل أعمال يدير أعمال شركاته السودانية عن طريق فرع لشركة شرف العالمية المسجلة فى بريطانيا و كان يملك عقارا كبيرا فى  أشهر احىاء وسط  لندن، حي نايتس بريدج.

و صل الوسيط لندن مقر عمله فى زيارة روتينية و لكنها لم تكن ابدا بغرض إنجاز الأعمال التجارية كالعادة ، بل كانت لإنجاز أعظم المشروعات السياسية الوطنية التى أعطاها كل وقته و جهده.

غادر الوسيط لندن إلى باريس فى رحلة عادية لم تكن معلومة لدى أقرب الناس إليه امعانا فى الكتمان و الإصرار على النجاح.

استقبل ممثل السودان فى اليونسكو الدكتور منصور خالد    الوسيط فى مكاتب اليونسكو ، و لأن السيد فتح الرحمن البشير شخصية سودانية معروفة لم تثر زيارته الانتباه و لا الفضول لأنه معروف انه رجل اعمال.

دخل الوسيط  منفردا على السيد الرئيس، فرحب به السيد رئيس الجمهورية ترحابا يليق به و كان السيد الرئيس أيضا منفردا.

السيد فتح الرحمن رجل ودود و وديع تجذبك دماثة خلقة و لطفه إليك بسرعة فائقة. ومن صفاته أيضا احترام الوقت و النفاذ إلى الهدف مباشرة و بعد مقدمة قصيرة متناهية الإختصار.

شكر الوسيط  السيد الرئيس  و أسر إليه أن سبب هذا اللقاء شان وطني خطير و عاجل و هو طلب المعارضة أو الجبهة الوطنية و رغبتهم فى التصالح معك بصفتك رئيس الجمهورية. فوجئ السيد الرئيس بالطلب المستحيل و لم يخف استهجانه و استخفافه بالطلب للدرجة التي دفعته للرد على السيد فتح الرحمن بكثير من الجفاء و العنجهية فخاطبه مستخفا و محبطا و مستنكرا الطلب قائلا : (بالله انت جايي من الخرطوم عشان تقول لي ديل عاوزين يتصالحوا معاك؟ والله انا لما قالوا لي رجل الأعمال السيد فتح الرحمن البشير طلب لقاءك الشخصي افتكرتك جايب لي هدية و استثمارات أجنبية ضخمة لمصلحة السودان ! تجي تقول لي عاوزين يتصالحوا معاك) ! . رغم توتر الجو و تكهربه و معروف ان الرئيس النميري تصعب السيطرة على تصرفاته فى ساعة الغضب. احتفظ السيد فتح الرحمن بكل هدوءه و رباطة جأشة و حكمته فامتص كل غضبة الرئيس و إنفعاله بجملة في غاية الصدق و البساطة و الإصرار : (ايوا يا ريس والله انا فعلا جيتك من الخرطوم عشان اقول ليك الكلام دا وليك انت فقط و على إنفراد). حيدت هذه الإجابة الودودة الهادئة موقف الرئيس نميري الرافض و خففت من سورة غضبة مضرية كادت تعصف بأكبر مشروع وطنى لحقن الدماء.

مرت لحظات صمت  و دهشة و ترقب كسرها الرئيس بكلمات صادقة و بسيطة : (طيب، قول لي المطلوب مني شنو؟) شرح السيد فتح الرحمن مشروع المصالحة الوطنية و رغبة المعارضة أو الجبهة الوطنية الصادقة في الجلوس مع سعادتكم و أنني مفوض رسميا لابلغك هذه الرغبة و هانذا أمامك انقلها إليك مباشرة مؤكدا أنها رغبة  لا رجعة فيها.

الله وحده هو الذي يعلم هذا التحول الحاد فى شخصية الرئيس النميري المقاتلة الصارمة و اتخاذه قراراً يتصادم مع طبيعته الرافضة المصادقة. لا أظن أن هناك معجزة و لكن قدرة الله هى التى تسببت فى هذه الإنعطافة الحادة جدا في موقف الرئيس القائد ليقبل التفاوض مع عدو و خصم شرس.

وفق الله الوسيط أن يطلب من الرئيس طلبا في منهي الاستحالة فاجأ الوسيط الرئيس بطلبه الذى لم يتردد فى الموافقة عليه . فاجأ القبول السريع السيد فتح الرحمن بنفس القدر الذى فاجأ الطلب المستحيل السيد الرئيس فرد الوسيط : اشكرك يا ريس و حتى يصدقني الطرف الاخر ارجو ان تكتب لي موافقتكم على طلبهم . أخرج الوسيط نوتة صغيرة انتزع منها ورقة و ناولها السيد الرئيس و الذى لم يتردد فى كتابة أسطر قليلة بخط يده  انه موافق على الالتقاء بممثلي الجبهة الوطنية.

لا أظن أن السيد فتح الرحمن البشير الشيخ فرح فرحة أكبر من فرحته بلقاء السيد رئيس الجمهورية اولا ثم موافقته الفورية على الإجتماع بالمعارضة المسلحة.

غادر السيد فتح الرحمن باريس ليبلغ  ممثلى الجبهة الوطنية بموافقة السيد الرئيس علي الاجتماع بهم و بدون شروط و الذين لم تكن فرحتهم بأقل من فرحة السيد فتح الرحمن البشير.

شرع الرئيس نميري و الوسيط في إنفاذ المصالحة الوطنية و التي ينبغي أن تسبقها و تصاحبها اجراءات سياسية و دستورية و إدارية و إعلامية و دبلوماسية و أمنية.

أدرك الرئيس نميري حكمة الوسيط و حرصه على إنجاز هذا المشروع مباشرة معه  بدون علم أقرب مساعديه أو أجهزة أمنه.

و حتى يظل الأمر فى طي الكتمان و خوفا من اي تدخل من اى جهة كانت فردا أو جماعة فتفسد التدبير أو تعرقلة أو تعوقه أو تمنعه و كل ذلك كان ممكنا خاصة فى مناخ صراع الأجهزة و التنافس في التقرب من الرئيس.

اتفق المشير النميري مع الوسيط أن يكون التواصل شخصيا و ان يكون اجتماعه مع زعماء الجبهة الوطنية داخل السودان و خارج الخرطوم و الا يعلن ابدا قبل إقامته. اقترح الرئيس نميري قاعدة بورتسودان البحرية مقرا للإجتماع بعيدا عن الخرطوم و بعيدا عن عيون و آذان الأجهزة الحزبية أو الأمنية أو السياسية. كان السيناريو ان يغادر المشير نميري مطار الخرطوم في مهمة مستعجلة للقاعدة البحرية في بورتسودان.

تواصلت الإجتماعات و الإتصالات بين مكونات الجبهة الوطنية في المملكة المتحدة مقر إقامة ممثلى حزب الأمة و الجبهة الإسلامية و الوسيط السيد فتح الرحمن البشير واليونان مقر إقامة الشريف حسين الهندي الذي لم يتغير موقفه من النظام العسكري منذ صبيحة يوم ٢٥ مايو ١٩٨٩ و لم تفلح محاولات الوسيط من جهة و مكونا الجبهة الوطنية حزبا الأمة و الجبهة الإسلامية من جهة اخري فى إقناع الشريف الحسين بقيادة المصالحة من أجل الوطن و المواطن. أغلب الظن أن إنعدام الثقة تماما بين الرئيس نميري و الشريف الحسين هو السبب المباشر في القطيعة.

شهدتُ اجتماعا ثنائيا طويلا بين الشريف حسين الهندى القادم من أثينا في اليونان  و السيد فتح الرحمن البشير في منزله في نايتس بريدج بلندن في المملكة المتحدة. كان هذا الإجتماع هو الإجتماع الفاصل والذي كان السيد فتح الرحمن البشير يأمل فيه أن يقنع الشريف الحسين بالمشاركة في المصالحة الوطنية.

طلب مني  عمى السيد فتح الرحمن البشير أن وافيه بمنزله لأنه سيتشرف بزيارة الشريف الحسين الهندي . لم أكن على علم بسبب الزيارة و لم أتوقع أن يكون الشريف الحسين لوحده بدون اي مرافق .  لم تكن أسرة السيد فتح الرحمن معه فى ذلك الوقت . كانت السيدة البريطانية تقوم بخدمات الضيافة الشاي و القهوة .

استمر اللقاء الحميم منذ الثانية بعد الظهر وحتى الثامنة مساءاً فى ليلة صيفية دافئة.

كان الحديث رغم طبيعته الرسمية الخاصة أشبه باللقاء العفوي تتخلله كثير من الذكريات و الطرائف و الانطباعات وبين الوقت و الآخر يتناول الصديقان الوضع السياسي الراهن بكثير من التحليل و علاقات الحكومة و المعارضة و كان الشريف شديد التمترس حول موقفه السياسى الرافض لأي تنازل للنظام الدكتاتوري و يعلن كل مره انه يقف موقفا مختلفا من موقف شريكيه في الجبهة الوطنية المعارضة. لكنه كان نبيلا لم ينتقص من مقام شريكيه ابدا ولم يتهمها ابدا إنما كان يبحث لهم عن المبررات و الأعذار.

كنت الاحظ بعض علامات الإحباط على وجه السيد فتح الرحمن و لكن لاحظت أيضا إرتفاع روحه المعنوية و قوة عزيمته و إصراره على الصبر على الحوار كان شعاره الا يأس حتى يصل الطرفان إلى بر السلام.

ارخى ليل لندن الصيفي سدوله و ظهر الإرهاق و التعب على المتحاورين . كنت مستمعا فقط و لا أتذكر انني شاركت بشيئ أكثر من المشاركة في الضحك على الطرائف و المفارقات و لكن وجدت أنني بتلقائية اقوم بافراغ طفاية السجائر كلما امتلأت سريعا بأعقاب السجائر   لأن الشريف الهندي يدخن بشراهة لا يتصورها من لا يعرفه. لا يستعمل الشريف علبة السجائر بل باكوهات علب السجائر و لا يستعمل القداحة لأنه يشعل السيجارة بالسيجارة. الغريبة لا السيد فتح الرحمن ولا شخصي من المدخنين بل عانينا كثيرا من كثافة الدخان رغم  النوافذ المفتوحة .

لا أجد تفسيرا لهذا الموقف المتصلب الذي لا يضع اعتبارا للوطن و المواطنين غير الكراهية الشديدة التى يكنها الشريف لشخص النميري الإنقلابي و سبب آخر ثانوى هو التنافس الشخصي على الزعامة و الغيرة الشخصية بينه و بين السيد الصادق المهدي و تقديره لتواضع وزن الجبهة الاسلامية القومية السياسى والجماهيري بمقاييس سيطرة الطائفية على جماهير الشعب السودانى.

طلب مني السيد فتح الرحمن أن احجز ثلاثة مقاعد للعشاء في احد المطاعم الراقية في المنطقة. رتبت لذلك و عدت لاحملهما بسيارتي للمطعم . امضينا وقتا إضافيا كان امتداداً لإجتماع المنزل .  انتهى أخطر لقاء سياسي بإصرار الشريف الحسين علي موقفه من النظام العسكري و رئيسه. تملكني إنطباع ان ذلك كان اعلان تفكك  الجبهة الوطنية واقعا. كما لاحظت انه رغم موقف الشريف المتعنت إلا أنه لم يتخذ من شريكيه موقفا عدائيا أو تخذيليا مع قدرته التامة على ذلك ، بل كان يعبر عن احترامه الشديد لرأي شركاء الأمس.

إنفض السامر. طلب مني السيد فتح الرحمن استدعاء سيارة أجرة لتقل الشريف إلى الفندق الذي نزل فيه بادرت أن أنال شرف مرافقته للفندق. نبهني عمي السيد فتح الرحمن أن شخص بأهمية الشريف حسين المعارض الرئيس للنظام العسكرى فى السودان يقوم فرع المخابرات الداخلية البريطاني بمراقبته منذ لحظة وصوله الأراضي البريطانية و حتى مغادرتها خوفا منه و خوفا عليه و ان حملته في سيارتي ستسجل المخابرات رقمها و سأكون مراقبا.

ودع السيد فتح الرحمن ضيفه الخطير و أوصلت عمي منزله و استودعته الله.

تعليقات
Loading...