عثمان الشيخ يكتب: حِكاية كمبو.

الخرطوم:مرايا برس

يحتل مشروع الجزيرة السهل المثلث الفسيح بين النيلين الأزرق والأبيض جنوب ولاية الخرطوم و غالبية ولاية الجزيرة.
اغرت طبيعة طبغرافية السهل ووفرة المراعي و الأمطار المستعمر البريطانى للإستثمار فيه بزراعة القطن لسد حاجة جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها و العاملة خارج أوروبا فى اسيا وأفريقيا فى مناخ حار و رطب لا تناسب إستعمال الملابس الصوفية.
يعرف مشروع الجزيرة في عالم الإستثمار والإقتصاد الزراعى كأكبر مزرعة في العالم تملكها جهة واحدة (إدارة مشروع الجزيرة).
يحتاج جنى محصول القطن فى تلك المساحات الكبيرة إلى عمالة يدوية كثيفة تساعد مزارعي الجزيرة.
صادف ذلك وجود عدد من حجاج و مهاجري غرب افريقيا الذين يقومون بعملية جنى(لقيط) القطن في موسم الشتاء.
استعان بعض المزارعين بإستقدام العمال المؤقتين من دارفور و إعادتهم إلى مواطنهم و قراهم بعد إنتهاء الموسم.
استمرت هذه العملية لمواسم كثيرة و بايقاع منتظم لعدة سنوات. ساعدت عوامل كثيرة مثل انتشار التعليم والهجرة إلى العاصمة والإغتراب و تدهور عائد زراعة القطن في استيطان العمال الموسميين في الكنابي خاصة بعد حلول النسيج الصناعى محل القطن وتناقص زراعة القطن في توطين هؤلاء العمال المؤقتين و استقرارهم و إستجلاب أسرهم لزيادة الدخل و العائد المادى.
تحدد جغرافية ظاهرة انشاء الكنابي حدود مشروع الجزيرة أو المنطقة المروية. خرجت أراضي الزراعة المطرية على ضفة النيل الأزرق من مشروع الجزيرة لإرتفاع أراضيها و استحالة ريها انسيابيا بالقنوات و الترع.
قرية البرياب من القرى الكبيرة والقديمة في ولاية الجزيرة ولكنها خارج المنطقة المروية لوقوعها على ضفة النيل الأزرق الغربية المرتفعة ألتى لا تصلها قنوات الري.
حدث تطور سياسي اقتصادي اجتماعي كبير غير حياة القرية كثيرا وهو ضم القرية إلى مشروع الجزيرة.
تقع قرية البرياب وفيها وجود الأحزاب التقليدية الأمة والأتحادي وطوائف الختمية والأنصار والهندية في منطقة تقاطعات وتنافس سياسي حاد .
ضم الشريف الحسين الهندي وزير المالية آنذاك ، وكنوع من الإستقطاب السياسي عددا من أراضي أهل البرياب المطرية إلى مشروع الجزيرة المروية. سبق ذلك العمل السياسي استقطاب مهاجري غرب أفريقيا من العمال الموسميين لتأييد حزب الأمة عن طريق منحهم الجنسية السودانية.
احتاج مزارعي البرياب وعددهم اكثر من ثلاثين مزارع إلى عمال لقيط القطن.
هذه بداية تاريخ ظاهرة الكنابي في البرياب و التي تتفرد بخصوصيات تميزها عن نشأة الكنابي الأخرى فى السودان.
هناك روايتان لنشأة الكمبو المشهور والمنسوب إليهم.
تقول الرواية الأولى أن المزارع محمد عبدالوهاب قمرالدين وآخران وهم من زعماء القرية التقوا ثلاثة أو أربعة من طالبي العمل اليدوي في بيارة (٧٧) و استقدموهم للعمل فى حواشاتهم فأقاموا فيها.بينما تقول الرواية الثانية أن مجموعة من العمال وصلت المنطقة و عملوا فيها.
كان ذلك في عام ١٩٦٧م. بنى هؤلاء العمال أربعة أو خمسة بيوت داخل حواشة المزارع مضوي القاسم من أهالى البرياب. استمر هؤلاء ١٤ سنة يقيمون في أرضه، فخشي الشيخ مضوي عليها فطلب منهم مغادرتها.
تزايذ في هذا الأثناء عدد العمال الزراعيين . اشترى العمال أرضا من أحد المواطنين فأقاموا فيها كمبو بقرب الحواشات . أطلقوا اسم مضوي على الكمبو بإسم مالك الحواشة التي كانوا يقيمون فيها.
هذه هى بداية كمبو مضوي الذى بدأ بقليل من بيوت القش قبل أكثر من نصف قرن بقليل و بخمسة عمال حتى قارب سكانه اليوم الألفين نسمة و زاد عدد المنازل كثيرا.
لم يكن بإمكان عمال لقيط القطن في الجزيرة الإقامة داخل قرى الجزيرة فأقاموا في الأراضي البور بالقرب من الترع و القرى ، و سكنوا في بيوت قليلة التكلفة من الطين و القش.
تبعد حواشات البرياب بضعة كيلومترات من القرية.
تميز كمبو مضوي سمى (طيبة وزّان) فيما بعد وسكانه من التاما القبيلة المشتركة بين شرق جمهورية تشاد و غرب دارفور.
نشأت علاقات غاية في الحميمية بين تاما طيبة وزان و سكان قرية البرياب إلى ما يشبه التوأمة.
سبب هذه التوأمة أنه ، و بالرقم من وجود قرى أخرى مجاورة لذلك الكمبو الا ان علاقة المصلحة و المعاملة الحميمة و الودية التي وجدوها من مزارعي البرياب و عموم أهلها قربتهم أكثر .
تطور الكمبو ، بمرور الزمن ، من بيوت طينية كمبو إلى قرية غير مخططة مثل بقية قرى الجزيرة.
شكل سكان كمبو مضوي أو طيبة وزان مصدر العمالة الرئيس لمزارعي البرياب.
حدث تطور ، غير متوقع، حوّل سكان قرية البرياب بعد انشاء رجل الأعمال السيد فتح الرحمن البشير أضخم مؤسسة صناعية فى السودان في سبعينات القرن الماضي شركة مصانع شرف للغزل و النسيج و الملابس الجاهزة في مارنجان و هو من أهل البرياب. حول ذلك التطور أهل البرياب من مزارعين مطريين إلى عمال و موظفين و فنيين في المصانع القريبة منهم.
أحدث هذا التطور الاقتصادي تحولا أساسيا في حياة عمال لقيط القطن المهاجرين من غرب السودان الذين كانوا يعتمدون على عائد أجور لقيط القطن إلى شبه مزارعين. هجر أهل البرياب الزراعة و اوكلوها إلى جيرانهم عمال لقيط القطن فنشأت شراكات عرفية بين مالكي الحواشات والعمال المهاجرين بدأت بشراكة بالربع ثم بالثلث و انتهت إلى المناصفة و استئجار المهاجرين الحواشات من مالكيها.
بعد تدهور صناعة النسيج عاد المزارعون للزراعة مرة أخرى بعد أن حول رجل الأعمال البريابي السيد فتح الرحمن البشير ٦٠٠٠ فدان من الأرضي المطرية إلى مشروع زراعي مروي فشق القنوات و الترع التي أدخلت مئات السكان من الخمس قرى المجاورة للبرياب إلى مزارعين محترفين.
نقلت هذه التطورات الاقتصادية عددا من عمال لقيط وافدين موسميين إلى سكان قرية مقيمين احترفوا الزراعة و حرفا أخرى.
التطور الأول : ضمان عمل موسمي يدر عليهم دخلا وفيرا يكفيهم العام كله. (سكان كمبو)
التطور الثانى : تحول أهل البرياب من الزراعة إلى عمال و موظفين في المصانع فتح أمامهم فرص دخل أكبر و ذلك بداية التحول إلى عمال مزارعين بالشراكة الثانوية.
التطور الثالث : وسع تدهور صناعة النسيج و عودة أهل البرياب إلى الزراعة مجددا فرص زيادة دخول المهاجرين.
التطور الرابع : تأسيس السيد فتح الرحمن مشروعا زراعيا حديثا لزراعة خضروات الصادر الطازجة و المعلبة فتح أمامهم فرصا أكثر وأفضل.
التطور الخامس: زيادة إهتمام ثورة الإنقاذ الوطني بالزراعة و الإنتاج جعل الإلتفات إلى الزراعة أمرا إستراتيجيا.
يحسب لأهل ومواطني البرياب أنهم احتضنوا هؤلاء العمال الموسميين وعاملوهم معاملة طيبة جدا فكانوا يواسونهم ويجاملونهم و يشاركونهم في مناسباتهم الإجتماعية وتأسيس مرافقه الخدمية التي إنشاؤها بالعون الذاتي تأسيا بالبرياب الذين شيدوا غالبية مرافقه بالعون الذاتي وسبب تلك الروابط أن غالبية مزارعي البرياب لديهم شركاء إنتاج دائمين من سكان طيبة وزان.
شيد الشيخ شرف الدين البشير من قرية البرياب و ممثل الدائرة فى مجلس الشعب أيام نميري مسجدا للجمعة والجماعات في قرية طيبة وزان بحكم العلاقات الحميمة.
حدثت التطورات الضخمة في عهد الإنقاذ إذ أدخل المهندس الصادق محمد على الكثير من الخدمات الضرورية للقرية مثل الكهرباء و مياه الشرب وغيرها .
قدر المهاجرون من قبيلة التاما كرم أهل البرياب و معاملتهم الكريمة الأخوية فكانوا لا يتأخرون عن مجاملة أهل البرياب و مواساتهم في مناسباتهم الاجتماعية. كانت قمة هذا التقدير الإجتماعي أنهم كانوا يساندون مرشحي البرياب على كل المستويات التشريعية.
ساعدت طبيعة أهلنا الوافدين الإنتاجية على تطوير حياتهم المعيشية من حيث الدخول من العمالة الزراعية والشراكات بحيث تخرج كل الأسرة للعمل الزوج والزوجة والبنت والولد والجد والجدة فتوفرت لديهم سيوله وظفوها استثماريا جيدا. احترفت نساؤهم تجارة الخضروات واحترف رجالهم تربية الضأن والأبقار وزراعة البقوليات والخضروات حيث وجدت منتجاتهم سوقا مستداما لدى مواطني البرياب. دخل بعضهم في إقتصاد الخدمات فامتلكوا وسائل النقل والترحيل المواتر والركشات و الأتوسات والبكاسي والدفارات والتكتيك والحافلات.
و بدخول الكهرباء فتحوا البقالات الشاملة بل صاروا يعملون فى تجارة الجملة و يمدون تجار التجزئة من القرى المجاورة. يعتبر سكان طيبة وزان من أعلى سكان المنطقة دخولا أن لم يكونوا اعلاهم على الإطلاق.
بنوا مدرسة أساس داخل القرية بالعون الذاتي واستفادوا من ثانوية قرية الدسيس المجاورة فكانت المفارقة أن يتفوق عدد تلاميذ طيبة وزان على عدد طلاب قرية الدسيس ذاتها.
لا شك أن سكان طيبة وزان هم اكثر المستفيدين من إرتفاع تكاليف الإنتاج الزراعى .
نسبة لوقوع قرية طيبة وزان شرق شارع الأسفلت الرابط بين مدني و حاج عبدالله و سنار و على بعد قليل من الأمتار منحتهم هذه الميزة أن يكونوا اكثر القرى سهولة فى المواصلات طوال اليوم.
إستطاع احد أبنائهم الدراسة حتى تخرج من الجامعة.
يعتمد أهل البرياب فى شراء خراف الأضاحي وعجول المناسبات والبقوليات على طيبة وزان.
من أشهرهم الشيخ محمد عمر شيخ القرية و هارون إبراهيم.
هذه حكاية خمسة مهاجرين صاروا مواطنين سودانيين.
لا أعتقد أن تكون الظاهرة الأخيرة التي أثارت دخان الفتنة مؤخرا حول سكان الكنابي ذات إثر سلبي على كمبو مضوي أو طيبة وزان القرية التابعة لإدارة حاج عبدالله و محلية جنوب الجزيرة.
هذه قصة احد كنابي الجزيرة.

تعليقات
Loading...