عثمان جلال يكتب:عصف فكري في بناء الدولة والأمة السودانية.

الخرطوم:مرايا برس

دولة ما بعد الإستعمار في العالم العربي بكل تجلياتها، القومية ، الملكية، الطائفية، العقائدية،تشكلت كمؤسسات استبدادية فوقية قاهرة لإرادة المجتمعات العربية التي قادة معركة الاستقلال والخلاص الوطني من عقابيل الاستعمار، وجاءت هذه الدولة الاستبدادية لايقاف الموجة الثانية من ثورة المجتمعات والمتمثلة في الثورة الفكرية والثقافية لإنجاز مهام البناء الوطني وقضايا الحكم المرتكز على قوامة وشرعية المجتمعات فجاءت تلك الدولة الاستبدادية على تضاد مع تطلعات الشعوب في المنطقة العربية ،وأصبح المجتمع وارتدت إلى استبدادية مطلقة، فردية لا انسانية، كما يدل على ذلك النعت الدائم بأنها شوكة في جسم المجتمع، يضرب ويتأذى منها.
إن علاقة المجتمعات بالدولة العربية الاستبدادية الحالية يماثل تماما وضع الشخص الذي يتعهد وحشا للدفاع به عن نفسه ولكن ما إن يفقد السيطرة والتحكم فيه حتى يغدو أول ضحاياه،فأصبحت الدولة غولا، وكائنا يمارس العدوان والإرهاب الداخلي على المجتمعات.
تلازمت عملية بناء الدولة والامة في الغرب الأوربي وتصدى لعملية البناء السياسي والاقتصادي والهوياتي المجتمع الحر في عصور التنوير والنهضة والحداثة، وثمرة ذلك الحضارة الأوربية المعاصرة بكل تجلياتها الإبداعية في مساقات الحياة، وعمودها الفقري الإنسان الحر والمبدع، وكثافة مؤسسات المجتمع المدني الخلاقة ، بينما انكمشت الحكومات في أزمنة الحداثة الفائقة في أجهزة فوقية للتخطيط والتشريع والاستراتيجيات بينما تفاعلت مؤسسات المجتمع في صناعة مشروعات النهضة.
ارتدت علاقة بناء الدولة والامة في العالم العربي والسودان ليس بدعا منها حيث تصدت لمهام عملية البناء الوطني الدولة الاستعمارية بادي ذي بدء، ثم الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار في دورات الحكم الاستبدادية الأطول، مع فترات ديمقراطية شكلية لأن الأحزاب السياسية التي قادت عملية البناء الوطني ركزت على الايديولوجيا الحزبية أكثر من ايديولوجيا القضايا الوطنية، انتهت إلى نموذج دولة فاشلة، ومتعازلة عن إرادة عن المجتمع،هذه البينونة بين الدولة والمجتمعات،عطلت عملية البناء الوطني، وانتجت الأزمات الحدية السياسية والنزاعات الهوياتية والخراب الاقتصادي الماثل، واستمرار هذه الدولة والذهنية في الحكم يعني الانهيار الشامل للدولة، ومصطلح دولة مجازا لأن تراكم نمط الدولة الفاشلة في الحكم لا ينتج دولة حديثة متماسكة ومكتملة البناء والأركان.
هذه النهايات الماحقة للدولة السودانية تستدعي العودة إلى منصة التأسيس الأولى عند الاستقلال الوطني، وبناء الكتلة التاريخية الحرجة، والتأسيس لا يعني قطيعة تاريخية بل تعني استلهام للخيبات الوطنية المتراكمة، والحقيقة والمصالحة والتواثق على عدم تكرار التاريخ فإعادة التاريخ مأساة، والبدايات التأسيسية يصنعها دوما القادة الافذاذ والآباء (المؤسسين المتجردين) من الذات والذين تهوي إليهم افئدة الشعوب، وذلك ليتصدوا لقيادة هوادي البناء الوطني في السودان والمتمثلة في بناء الأمة السودانوية، وتأسيس الدولة ،وبناء نسق اقتصاد حديث مستقل ومتكامل في قطاعاته،وبناء نظام سياسي يصنع عقده المجتمع، ويحقق فرص المشاركة المتكافئة في السلطة لكل الاديان، الأعراق والاثنيات والقوميات ، وضرورة أن تمتلك الدولة ناصية السيادة وتكون متحررة وتمتلك قرارها في العلاقات الخارجية والدولية وان تكون أولوية الولاء للدولة الوطنية تعلو على جميع أشكال الولاءات الأخرى العرقية والقبلية والطائفية والدينية،وان يكون للدولة وحدها الحق القانوني في احتكار العنف واستخدام ادواته ، وان تضمن أسس التمثيل السياسي عدم احتكار عصبية قومية أو عرقية واحدة على الدولة وان يغدو الانتماء للدولة هي العصبية الكبرى.
إن تحقيق قومية الدولة وبسط التنمية العادلة والمتوازنة ضرورة لتشكيل هوية كلية وجامعة لمجموع الاعراق والثقافات بحيث تجد كل مجموعة عرقية واثنية ودينية ذاتها متفاعلة في حراك خلاق ومثمر تأخذ وتعطي وذلك لبناء الشخصية القومية المائزة للأمة السودانية، وان كان لبعض الثقافات علو يجب أن تحقق ذاتها من خلال عملية الإثراء الثقافي الكلي دون أن يتحقق ذلك باحتكار استخدام جهاز الدولة الايديولوجي لأن ذلك سيؤدي إلى فرض وصاية ثقافية أحادية تهوي بنا في صراع الهويات القاتلة التي أدت لانفصال الجنوب، واستمرار الصراع الهوياتي بين المركز والهامش.
لذلك ينبغي تجاوز حالة الصدام الهوياتي بثنائيته المورثة في السودان بين المدرسة العروبية المثالية والتي ترى أن تاريخ السودان السياسي والثقافي والاجتماعي يبدأ بدخول العرب في السودان وان اي هوية أخرى يجب أن تعبر عن ذاتها بالذوبان والتلاشي في الهوية العربية،والمدرسة المقابلة والمتمثلة في الافريقانية والتي ترى ضرورة مقاومة الهوية العربية وتجاوزها بفرض الهوية الأفريقانية، ولذلك فإن استمرار حالة التضاد الهوياتي يعني استمرار حالة الصراع والصدام ولذا يجب تجاوز هذه الثنائيات المدمرة في مسألة الهوية وضرورة بلورة هوية ثقافية سودانوية نسيج وحدها تعبر عن هذا التنوع والثراء في التربة السودانية ،ويجب أن يوجه جهاز الدولة البيروقراطي وحشد كل طاقات المجتمع لتدعيم وغرس هذه الهوية ،والتي ينبغي ان يدرك أي فرد في المجتمع ان له سهم في تشكيلها وأنها تعبر عنه ومدعاة للفخار الوطني.
لن تكتمل عملية بناء الدولة والأمة والهوية الوطنية الا ببناء أحزاب سياسية وطنية نظامها الأساسي منبثق من ايديولوجيا القضايا الوطنية، ومتجردة من الإيديولوجيات الوافدة من الخارج، أحزاب برامجية، تنموية، سودانوية محضة،قاعدتها الاجتماعية منتشرة في كل فجاج السودان، لا ثابت لها سوى غرس المشروع الوطني الديمقراطي، أحزاب تتداول فيها القيادة دون أن تكون حكرا في أسرة، أو أقلية اوليغارشية. إن اطراد وتلازم هذه العمليات سيؤدي إلى بناء دولة الوطن، والتي تستمد قوامة مشروعيتها وديمومتها من المجتمع، فهذه الدولة بمثابة المجتمع المنظم ذاتيا عبر مؤسسات الدولة، أنها دولة تتجذر بالتماهي مع المجتمع،أنها دولة لا قانون لها سوى قانون المجتمع ،ولا غاية لها سوى غايات المجتمع، هكذا دولة قوامها المجتمع ، تحقق ما يعرف (بالسلطة الانسانية)والتي يقوم بها ويمارسها بشر ، وتحديد صلاحيات هؤلاء البشر ، وضبط سلوكهم،وتعيين طرق محاسبتهم وتدريبهم على مغزى المسئولية الجماعية، وتعليمهم ملكات الإدارة والحكمة والفضيلة والحكم، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين ، لان مهمة المجتمع البشري هي تنظيم مصالح المجتمعات الدينية والدنيوية على الأرض وانفاذ القانون والعقاب من بشر على بشر، وعندها ستتحقق عملية بناء الدولة والأمة السودانوية وحتما ستتحول حالة التنافر والتناحر إلى ثقافة وحدة ومشروعات نهضة ومنجزات حضارية.

تعليقات
Loading...