محمد طلب يكتب : جريزلدا الطيب البريطانية التي أحبت السودان..إلى رحمة مولاها.

الخرطوم :مرايا برس

 كنت طالباً بالجامعة ومغرماً بمعرض الزهور الذي يقام سنوياً بقاعة الصداقة على أيامنا ولا ادري ما هو وضعه الان بعد عودتي من الغربة الطويلة.

في أول علاقة لي مع معرض الزهور رأيت السيدة (جوهرة) و زوجها العلامة دكتور عبدالله الطيب يتجولان داخل المعرض واصبح ذلك  المشهد ثابتاً كل عام خلال متابعتي للمعرض لمدة خمسة أعوام فقد كان المعرض سنوياً.. وكأن هناك اتفاق مبرم بيننا على أن نلتقي هناك … 

مثل كل اهل السودان كنت معجباً بالدكتور عبدالله الطيب في زمن كنا نسمع (بالدال) و (البروف) تسبق اسماء قلة من العلماء على رأسهم عبد الله الطيب والان الدكتوراة في(السوق الشعبي) و(على قفا من يشيل) … كنت اتابع  بفضول تجوالهما وحديثهما إلى العارضين  وكثير من الأسئلة تدور براسي حول هذه  (العلاقة العجيبة)  التي تشبه أساطير (الحب) وابطالها  عرفت لاحقاً ومن خلال لقاءات تلفزيونية انها علاقة وفاء نادرة وفريدة من نوعها ليس لزوجها وحده بل للتميراب والدامر والمحاذيب والسودان.. مما زاد كمية الأسئلة والافتراضات في  راسي… فالزواج من اجنبية (خواجية) إلى وقتنا هذا يقابل بالرفض فما بالك ان ذلك كان في الخمسينات واستمر حتى وفاة العلامة البروف  عبد الله الطيب  وها هي زوجه ورفيقة عمره تلحق به نسأل الله أن يسكنهما الجنة…

السيدة (جوهرة) وهو اسمها بعد إسلامها… ظلت على دينها وزوجها عالم اللغة العربية ومؤلف المرشد إلى فهم  اشعار العرب وصناعتها  و الذي قدم له عميد الأدب العربي طه حسين وفوق كل ذلك مفسر لآيات ومعاني القرآن الكريم ظلت على دينها وهي زوجة عالم من علماء اللغة ومفسر للقرآن إلى أن فتح الله قلبها للإسلام (أظن في السبعينات) وقالت جملة عميقة( عرفت الله في شخصية عبد الله الطيب) ما أعظمه من دين وما أعظمك من رجل متدين وما أعظمها من زوجة … 

ظلا زوجين متحابين من  بلدين مختلفين و دينين مختلفين وثقافتين مختلفتين ما يجمع بينهما هو (الحب) ولم يجمع بينهما (ولد) طوال حياتهما الزوجية كان (الحب ) هو الولد والبنت والأب والأم والوطن لا شك عندي أن السيدة (جوهرة) قد واجهت صعاب كثيرة في مجتمعنا وتجاوزتها بقوة وعزيمة.. لا أدري إن كانت السيدة (جريزلدا) تحمل جنسية سودانية ام لا كما لا أعرف قانون الجنسية  لكني اعلم تمام العلم انها تعرف السودان أكثر من اهله وتنقلت فيه أكثر من اهله ومن زوجها نفسه وتلم بثقافات أهل السودان أكثر منا جميعا وقدمت لنا الكثير من الدراسات حول موروثاتنا والفلكلور الشعبي كما أنها تحتفي ب (الحوش ) و(العنقريب)  و(التوب السوداني) بل تبكي على الخطوات السريعة لانقراض  هذه الموروثات المتفردة … وتحث كثيرا على المحافظة عليها. 

 أظن أن روح الفنان الشفافة و(المعاملة) هي التي هدت السيدة جوهرة  للإسلام ودعم ذلك زوجها دون املاءات…كما نلاحظ في اسمها بعد الإسلام انها احتفظت بحرفها (G) وتم اختيار الاسم بعناية فائقة تحمل كثير من المداولات مع الاحتفاظ (بالأصل) كيف لا ونحن أمام زوجين (فنانة تشكيلية وكاتب واديب كبير). 

تقول السيدة المرحومة (جريزلدا)  عن زوجها انه لم يكن ينتمي لجهة أو حزب كي لايكون مقيدا وأضافت أنه كان يحترم الجمهوريين ومفكرهم وقريب منه.. 

وقد يستغرب البعض ذلك  وقد كتب قصيدة رثاء في محمود محمد طه  بعنوان  (مصاب وحزن) قائلاً:

قد شجاني مُصابَه محمودُ.. مارقٌ قيل وهو عندي شهيدُ

وطنيٌّ مجاهدٌّ وأديبٌّ.. منشئٌّ في بيانه تجويدُ

وخطيبٌّ مؤثرٌّ ولديه سرعة الردِّ والذكاء الفريدُ

وجريئٌّ وشخصه جذابٌّ ولدى الجدِّ فالشجاع النجيدُ

ذاق سجنَ المستعمرين قديماً ومضت في الكفاح منه العقود

سيق للقتل وهو شيخٌّ أخو ست وسبعين أو عليها يزيدُ

لم يراعوا فيه القوانين ظلماً فهو قتلٌ عمدٌ وجرمٌ أكيدُ

ويقال إن ما ساق د. عبد الله الطيب إلى التفسير هو قول الأستاذ محمود أن مجال عبد الله الطيب  هو( الدين وليس الأدب)

(جريزلدا) كانت صادقة و وفية غاية الوفاء لزوجها ولاهله و لوطنها السودان. 

جريزلدا سودانية أصيلة جلست على (دوكة العواسة) وركبت الحمار والقطار والمراكب … و تنقلت باللواري وقطعت الصحاري والوديان  وجابت معظم أنحاء السودان وخلفت ارثاً تاريخيا من المؤلفات عن حياة أهل السودان وجمالياته بروح الفنان والعالم… 

رحمها الله رحمة واسعة وادخلها الجنة انتقلت الى ربها في ساعة مباركة من يوم مبارك في شهر مبارك.. وانا لله وانا اليه راجعون. 

تعليقات
Loading...