الحركات المسلحة وقضية البناء الوطني الديمقراطي

عثمان جلال

(1)
تنشط حركات الهامش المسلح دائما ضد السلطة المركزية السودانية في ظل الفترات الديمقراطية فالتمرد الأول انفجر عام 1955، وتكثف خلال الديمقراطية الثانية 1966 إلى 1969، واشتد عقب ثورة أبريل 1985، وتفاقم خلال الديمقراطية الثالثة 1986 إلى 1989م، وحتى التفاهمات السياسية الهشة التي تمت بين الهامش السوداني المسلح، والسلطة السياسية المركزية خلال الحقب الديمقراطية المختلفة لم تفض إلى سلام استراتيجي مستدام (مؤتمر المائدة المستديرة، ومقررات لجنة الاثني عشر 1965، اتفاق كوكادام 1986، واتفاقية الميرغني، قرنق 1988م، بينما أبرمت حركات الهامش المسلح اتفاقات كبرى مع الأنظمة العسكرية مثل اتفاقية أديس أبابا 1972 في عهد الرئيس نميري، واتفاقية نيفاشا 2005م ، واتفاقيات القاهرة واسمرا وابوجا والدوحة في عهد الرئيس عمر البشير، وان ذلك كذلك فهل حركات الهامش المسلح عقبة تاريخية أمام المشروع الوطني الديمقراطي؟
وهل تدرك حركات الهامش المسلح محددات الهوية السودانية؟؟ وهل العمل المسلح ام الحوار الأنسب للتعبير عن القضايا المطلبية؟؟ وهل قادة الحركات المسلحة محض طبقة برجوازية تتاجر بقضايا الهامش وتبرم اتفاقيات المحاصصات الفوقية مع الأنظمة الاستبدادية؟ بينما عجزت هذه القيادات عن إنتاج مقاربة ديمقراطية في بنية حركاتها المسلحة الداخلية؟؟ وأخفقت كذلك في إنجاز مشروع تنموي في ما يسمى بالمناطق المحررة؟؟
وهل الحركات المسلحة تملك مشروعا فكريا وسياسيا واقتصاديا يصب في تحقيق أهداف وشعارات الثورة السودانية العميقة والمستدامة، حرية، سلام وعدالة؟؟ وهل تفاعلات عملية السلام الراهنة ستنهي ذهنية وثقافة التمرد العسكري نهائيا وتؤسس لقيمة الحوار والتدافع الفكري والسياسي كأساس لحلحلة أزمة الحكم وجدلية صراع المركز والهامش ََفي السودان؟؟
(2)
ان دراسة التاريخ السياسي السوداني وبوعي نقدي يجنبنا استمرار الدورة الشريرة في الحكم ومن الثنائيات السودانية الناجحة تحالف عمارة دونقس وعبد الله جماع حيث ادرك الفونج الوثنيون ضرورة استلهام عمق ثقافي فكان الدين الاسلامي واللسان العربي روافع ثقافية لشرعية حكمهم، ََوإدارة مملكتهم المترامية في اطار نظام فيدرالي متمثل في نظام المشيخات الذي كان سائدا مع الوﻻء للسلطة السياسية المركزية في سنار وبالمقابل فشلت كل حركات الهامش المسلح في إسقاط السلطة المركزية في سنار مثل حركة الشايقية (بقيادة الملك جاويش/حركة الشيخ عجيب المانجلك) لانها تحركت من بواعث عصبية وقبلية، بينما نجح الامام المهدي في قيادة ثورة ضد الحكم التركي رغم تمثل ذلك النظام لرمزية دولة الخﻻفة الاسﻻمية وذلك لان الامام المهدي بعث الوعي القومي، وحشد المجتمع السوداني حول فكرة المهدي المنتظر، وهي فكرة تنهض في اوقات الشدة والقعود وتلتمس الخﻻص من الاستبداد بحد السيف وكان الرجل الثاني في الثورة المهدية هو القائد عبد الله التعايشي القادم من الغرب الى الوسط النيلي الحضري باحثا عن دور الرجل الثاني لوعيه التام بالتفوق الحضاري والثقافي لانسان الوسط النيلي. وانتجت ثنائية (المهدي، التعايشي) دولة مركزية قوية، وفشلت كل ثورات قوى الهامش المسلح التي انتفضت ضد الثورة المهدية بدء من ثورات الغرب المتجلية في تمرد الكبابيش والفور وثورات الوسط (الضباينة والشكرية، ثورة الاشراف) وثورة اهل الشمال بقيادة الشايقية والجعليين.
(3)
انهي الحكم الثنائي البريطاني، المصري دولة المهدية تحت شرعية استعادة السودان لدولة الخلافة الإسلامية فشكل نظاما مركزيا فشلت كل ثورات الهامش المسلح التي ثارت ضده مثل ثورات (ود حبوبة، الاشراف، النوبة، الزاندي،النوير الدينكا)، ولم تنجح ثورة وطنية في خلخلة النظام الاستعماري باستثناء ثورة 1924 بقيادة ثنائية الافذاذ (علي عبد اللطيف، وعبيد حاج الامين) لانها كانت انتفاضة ذات اهداف مركزية وقومية في خطابها وقياداتها، وحاضنتها الاجتماعية، وكذلك نجحت الثورة الفكرية والتنويرية لمؤتمر الخريجين(1938) والذي انتهت تفاعﻻته بتشكيل الأحزاب السياسية والاستقﻻل الوطني.
(4)
هكذا كان قدر الدولة السودانية عبر التاريخ ان تدخلها الديانات السماوية (المسيحية، الاسلام) عبر السلم والحوار، وان تتشكل في بنيتها المجتمعية الثقافة السودانوية عبر الحراك والحوار، وان تنجز فيها المشاريع الوطنية الكبرى عبر السلم والحوار مثل الاستقﻻل الوطني، وأن تحل فيها اطول الحروب الافريقية (حرب الجنوب) عبر الحوار والسلم، بل وكل حركات الهامش المسلح في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، والشرق نجحت في بعث قضاياها الإقليمية المطلبية عبر مساومة الحوار والتسوية السياسية، ومهما اختلت مطلوبات التسوية السياسية فهي مدعاة لبذل الحوار ثم الحوار وليس الجنوح للتمرد والعنف المسلح، وكذلك من العبر إسقاط كل الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على الحكم في السودان عبر ثورات شعبية سلمية، وكذلك عبر الحوار والتدافع الفكري والسياسي ذابت كل الايديولوجيات المثالية (اليمينية، واليسارية) في إطار المشروع الوطني الديمقراطي. هذه ملهمات يجب ان تحفز القوى السياسية الوطنية من أقصى اليسار لأقصى اليمين للتداعي في كتلة تاريخية حرجة لصناعة مشروع الثورة السودانية الديمقراطية وحراسته وغرسه ومأسسته في نظام الحكم، والمجتمع، والأحزاب السياسية عبر الحوار والتدافع الفكري.
(5).
ان حركات الهامش السوداني المسلح حتى تكون فاعلة في مشروع الثورة السودانية الديمقراطية عليها ادراك ان محددات الهوية السودانوية منذ الازل هي الدين، وعقيدة التوحيد، واللسان العربي، والثقافة الإسلامية، والشريعة، واللهجات المحلية وهذه القيم تشكل الكيمياء التأليفية التحتية للحواضن الاجتماعية للحركات المسلحة، من لدن ممالك دارفور، وتقلي، والفونج وكردفان الإسلامية، ولذلك فإن شعارات العلمانية واللادينية التي تصدر من القيادات الفوقية للحركات المسلحة تنم عن حالة فصام فكري وانتهازية سياسية.
(6)
لا شك ان حركات الهامش السوداني المسلح شريكة في صناعة الثورة السودانية، واستدامة هذه الشراكة من منظور استراتيجي تحقيقا للمشروع الوطني الديمقراطي المستدام يتطلب نبذ العنف والسلاح نهائيا، وتبني الحوار والتدافع الفكري والسياسي أدوات للتعبير عن التظلمات والقضايا المحلية والقومية حتى ان تعذر لبعض الحركات المسلحة إبرام اتفاق ناجز مع الحكومة الانتقالية أو الحكومة التي سيتم انتخابها ديمقراطيا عقب نهاية الفترة الانتقالية طالما أن رخصة الحرية والديمقراطية هما الأصل الاستراتيجي لإدارة خلافات التنوع بين الشركاء الوطنيين، ولذلك على الحركات المسلحة التحول لجماعة سياسية وفكرية مدنية، وتأسيس أحزاب سياسية قومية، أو حركات احتجاج مطلبية إقليمية، أو التوالي مع الأحزاب السياسية الوطنية الكبرى، وعلى الحركات المسلحة ادراك أن استمرار العنف والعمل المسلح في ظل الفترات الانتقالية، ومنحنيات التحول نحو مشروع وطني ديمقراطي مستدام بمثابة ردة كبرى وثورة مضادة.

تعليقات
Loading...