الناقد إبراهيم الإعيسر في دراسة نقدية لرواية (تأشيرة غياب) للروائي عماد براكة.(١-٢).

الخرطوم :مرايا برس

ليس هناك من ذنب لروح حديثة في الحياة سوف تنال حظها السيء بوجودها على هامش جغرافيا فقيرة..
فما معنى أن يعيش اثنين رومانسيتهم الفقيرة وسط (فنادق) الخرطوم لينسخوا روح سيئة الحظ في أن يأتي وجودها المصادف على هامش المكان!؟
الواضح أن الدافع الغريزي الذي أخلف تناسخ الأرواح هو دافع في جوهره لأجل سيرورة الحياة (غير العادلة)!.
تبدو جملة (غير العادلة) مربكة كثيراً! لكن إذا رجعنا إلى القرآن الكريم سوف لن نجد أي أية توضح (عدالة) الحياة بين البشر! هناك من يملك كل شيء وهناك من لا يملك شيء مع العلم الأخير ربما سوف يكون أكثر إجتهاداً وإمتلاكاً للمؤهلات ، لكن تبقى الحكمة في ذلك هي (سيرورة الحياة) نفسها، فالمفارقات المادية هي الدافع الجوهري للعمل والمحاولة والإجتهاد.. مقابل الحصول على حياة رخية وأحلام مشابهة..
ربما أن أبطال (تأشيرة غياب) ذهبوا من منطلق هذا المبدأ الفلسفي فخيبوا بنات وطنهم بعد أن مارسوا معهن كل ما يمارسه زوجين عاشقين دون شرعية دينية تتيح لهم ذلك سوى شرعية الحب (الكافرة) التي آمنوا بها ليتزوجوا في الأخير من نساء أوروبيات كافرات (داعرات)! تسامحوا مع الزواج منهن مخالفين في ذلك محفاظتهم الإجتماعية وشخصياتهم (السوية) بدافع البقاء في مكان (ٱمن) يحفظ كرامتهم الإنسانية وحظ جيد لأولادهم في أن يجدوا أنفسهم دون هامش المكان.
تبدأ الرواية بأحداث غريبة ومشوقة تضعها في خانة أدب (الرعب): حيث شخص ليس هو معروف بشاب أو رجل خمسيني أو ستيني أو سبعيني..! من خلال تلميحات طفيفة وردت بين بدايات السرد مع إرتباط العنوان وصورة الغلاف وسؤال ورد على الصفحة الأولى: لماذا كانت تلك العجوز الهولندية تنظر إلي بطريقة غريبة وعجيبة؟ يتضح هذا الشخص أنه لاجئ أفريقي يعيش في إحدى المدن الهولندية، تلاحقه نظرات غريبة (أقرب إلى كونها نظرات عنصرية ضد العرق من كونها شيئاً آخرا يمكن أن يكون ضد إنسان يرتدي فنلته بالأقلب مثلاً) ذلك من الذين كانوا يقتسمون معه القطار، بما فيهم بائع التذاكر نفسه الذي لم يكتفي بقراءة تاريخ التذكرة، أو كم ورد على لسان الراوي: لم يكتفي بقراءة تاريخ التذكرة بل أمسكها بيده وتفحصها جيداً كما لو كان يتوقع تزويراً..!
حتى المدينة التي حطت فيها قدماه دون أحد غيره عند مدخلها من محطة القطارات كانت تبدو ((غريبة)) ومرعبة، يبدو عليها الخلو من السكان والحس الحركي تماماً أو (لا حركة بينها سوى صفق الأشجار المتساقط الذي تحركه وتهزه حركة الرياح) أو هي مدينة ((مهجورة)) لكن لم هي ((مهجورة))!؟ هنا يبدأ سؤال مهم عند القارئ!؟ تبدأ معه مرحلة من ((التشويق)) التي تفنن فيها (الكاتب) بدرجة دقيقة ومتميزة جداً، تضع القارئ في (وطأة جمرة التشويق المعذبة) فالكاتب الحسن هو الذي يعذب قارئه ((بالتشويق)) أو الانتظار للحظة مهمة وفارقة تدفعه نحو الاستمرارية..
لكن سريعاً في مبدأ الصفحات الأولى يتضح أن هذا الشخص هو سوداني (لم يتضح عمره الأكيد) لكن من صورة الغلاف ربما يبدو رجل في أواخر الثلاثينات أو أربعيني! أسمه (أشرف) أتى للدراسة في هذه المدينة المرعبة ((المهجورة)) تحديداً – ويقطن بالأساس في العاصمة أمستردام – وقبل أن يلتقي بالشخص الذي من المفترض أن يلتقي به – وهو من أبناء وطنه – في مهمة أن يأخذه لمعاينة الغرفة التي سوف يسكن بها، يمر بشخص (مختل) عقلياً يبدو أنه سوداني أيضاً له قصة مجهولة قادته للجنون.. أو هو في الأساس مثل عشرات اللاجئون، المجانين والمشردون في الشوارع الأوروبية؛ بسبب مشاكل أوراق اللجوء أو الاقامة الدائمة أو الفشل في الإندماج وسط المجتمع الأوروبي (هذه كل الإحتمالات الممكنة خلف قصة هذا الشخص).
أتوقف عند اللحظة التي إلتقى فيها (أشرف الصافي) – كما وضح أسمه الثنائي لاحقاً – بذلك الشخص المفترض أن يلتقي به.. أو كما هو موضح بصورة دقيقة (عثمان فخة).. وعند إكتشاف (أشرف الصافي) عبر (عثمان فخة) نفسه أن هذه المدينة (هجرها) الهولنديون نسبة لتدفق اللاجئين فيها وهي قصة لا تختصر في سطرين أراد أن يعكس بها الكاتب المفارقات الإنسانية والعقلية الإدارية عند الشعوب الغربية والشعوب من العالم الثالث (السودانيون) تحديداً، إضافة للصراعات الدائرة بين المهاجرين والأوروبين (المواطنين الأصل) ، الخدمة التي يقدمها المهاجرين للدولة مقابل حق اللجوء الذي يقدم لهم..
أتوقف هنا لأقول أن الرواية عند هذه النقطة تحولت من أدب ((رعب)) إلى رواية ((واقعية)) كلاسيكية ((مبتذلة)) في أدب ما أسميه بطريقتي الخاصة (أدب المهاجرين)، لكن هناك سؤال يبقى مهم عندي: كيف سوف يخلق الكاتب (تشويقه) بعد هذا ((الكشف)) عن المدينة ((المهجورة)) وتلك النظرات (الغريبة) التي كانت تلاحق (أشرف الصافي) في القطار!؟ أو ما بعد رواية (الرعب) إذ أسميتها بذلك!؟
كنت أنتظر (بتشويق) آخر لأعرف مدى إتساع مخيلة وذكاء الكاتب! مع إبتسامة عريضة شيطانية مصاحبة – يمكن تصورها – تمهد إلى سب الكاتب إن لم ينجح معي.. لكن صراحة أن الكاتب فاجأني بمخيلة كبيرة حينما عاد إلى ذلك ((المختل)) وخلق منه قصة أخرى عذب بها القارئ لدرجة بعيدة جداً أو لدرجة أحياناً تكاد أن تكون (مملة) إن لم نقل تماطل فيها الكاتب في تأخير ايضاح من هو هذا (المختل)!؟ خصوصاً في التداعي المفاجئ غير المبرر له لشخصية (نهلة جمال الدين) التي وردت معها جمل طريفة وجميلة مثل: (التقيت أمام هذه القاعة بنهلة جمال الدين ((فتاة خارجة من الواقع)) ) صفحة رقم 51 ، (قلت لنفسي، هذه النوعية من الفتيات، يجب أن يكون المدخل إليها، الدفاع عن حقوق المرأة والإيمان بالمساواة، يجب أن أهلل بشعارات الجندرة) صفحة رقم 53 – 54 فالكاتب الذي يعبي الضحك في كتابته كاتب يدخل بؤرة القلب سريعاً.
أي أن تلك القصة التي خلقت (تشويق) آخر هي برزت في اللحظة التي نطق فيها ذلك ((المختل)) حين إلتقى به مرة أخرى (أشرف الصافي):
– أما زلت تكتب الشعر يا أشرف الصافي؟
التفت إليه بسرعة مذهولاً، وقبل أن أختار أسرع سؤال أنفض به غبار الدهشة وأقول له من أنت؟ أو كيف عرفت اسمي؟ وجدته يداهمني حتى في عقر خصوصيتي وعشقي:
– هل علاقتك برباب تاج السر أثمرت؟
صفحة رقم 30
لتبدأ قصة ((التشويق)) الأخرى من هنا في أن يدخل (أشرف الصافي) في صراع طويل مع الذاكرة لمعرفة من هذا (المختل) عقلياً!؟، الذاكرة التي أودعته إلى زمن بعيد هو زمن الدراسة؛ أصدقاء الدراسة وكل من ربطته به معرفة في ذلك الزمن، لكن الذاكرة لم تسعفه في (معرفة) من هذا (المختل) الذي هو الآخر (يعرفه) جيداً وهو من المؤكد أن ما بينهما كانت هنالك صداقة أو معرفة سابقة، لكن أي صداقة أو معرفة تلك وأين تكونت!؟ حتى عاد بمكالمة إلى (عثمان فخة) الذي أخبره بأن هذا (المختل) أسمه (عامر عباس قنديل) دون أن يوضح له شيء آخر يخصه بخلاف القصة التي حكاها له مسبقاً بأن هذا (المختل) ما قاده للجنون هو وفاة زوجته الهولندية وإقتلاع إبنه منه عنوة لينشأ في إصلاحية الأطفال ولينشأ هو الآخر في الشارع نتيجة لهذا التأثر (الإفتقاد)!.

تعليقات
Loading...