د. ياسر محجوب الحسين يكتب:الثقافة والقيم.. تحديات الداخل والخارج. 

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

أمواج ناعمة...  ياسر محجوب الحسين

يبدو أن عالم اليوم، ولربما هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، تستبد فيه القوة بكل ادعاء نميم وتهزم كل محاولات التصنّع الحضاري القيمي. وبحكم طبائع الأشياء، وبعيدا عن أفضلية الإنسان وتكريم الخالق جلّ وعلا له بنعمة العقل، فإن القوة مادية كانت أم عسكرية تنبذ ما دونها من نظيرات فتسود شريعة الغاب. أما الثقافة والقيم في كل أمة من الأمم فلا مجال لأن تكون في محل القوة وما دونها؛ فالثقافة والقيم حالة إنسانية ليست قابلة للوزن والتقييس والتقييم، فلا أفضلية لثقافة بيضاء بحكم العرق، على أخرى سوداء. ولا أفضلية لثقافة شمالية، بحكم الجغرافيا على أخرى جنوبية.

أحيانا كثيرة تبدو الثقافة والقيم المصنوعة والمرتبطة بكمياء السياسة والقوة مفضوحة مكشوفة العورة، ويحاول المدعون والمسبحون بحمدها عبثا بحثا عن ورق توت يستر ما انكشف. يقول الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار أن الليبرالية، والاشتراكية، والماركسية، وفلسفة التنوير عموما، أنظمة فلسفية وعدت البشرية بالتحرر من الفقر والجهل والقمع والظلم بيد أنها فشلت فشلا كبيراً في نهاية المطاف وانهارت، ومن ثمّ تعرت ما سميت بمرحلة الحداثة، فجاء من يحدثنا عن مرحلة جديدة سموها بمرحلة ما بعد الحداثة. اليوم مفهوم الديمقراطية يبدو كمفهوم هلامي بسبب الكيل بمكيالين واحتقار الآخر لاسيما ثقافته وقيمه. بيد أن هلامية مفهوم الديمقراطية أمر يبدو أنه مقصود في حد ذاته بغرض ذر الرماد على العيون وإتاحة هامش من المرونة يمكّن من الاستخدام السياسي لهذه المفهوم عند الحاجة فتصبح الديمقراطية سيفا مشرعا في وجه القوى المتمردة على النظام الدولي المتحصن بالقوة، في مواجهة المتمرد النازع إلى العناية بقيمه وثقافته باعتبارها حالة انسانية مجردة.

الغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظام حياة شاملا يريد نظماً سياسية في دول الآخر مسلمة وغير مسلمة، تتماهى مع ما يؤمن، وهذا ما يصطدم تماماً مع ثقافة وقيم الآخر ولذا يُشيع عبر آلته الإعلامية المتعاظمة أن كل من يتصدى للدفاع عن ثقافة أمته وقيمها فهو لا محالة ساع إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق تشريعات وقوانين لا تصلح للعصر الحالي فقط لأنها مستمدة من قيم وثقافة غير الثقافة الغربية. ويجد الغرب في التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية في الطرف الآخر ضالته حيث تلقى فكرة تأصيل الثقافة والقيم المحلية في السياسة عدم قبول لديها، فهي تؤمن بالرؤية الغربية وتريد بناء دول علمانية مستنسخة.

إن الرسالة الموجهة لوكلاء الآخر في أوطانهم من دعاة استبدال ثقافتهم الأصلية بثقافة غربية علمانية، هي أن الإسلام دين الوسطية، وليس الدين مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة دونما بعد معنوي. وأن التخلي عن المرجعية الإسلامية والثقافة الأصيلة وإن كان ظاهريا، لن يجدي نموذجا غربيا مثاليا بل سيغدو الأمر ويماثل ظاهرة الأحزاب الشيوعية في مرحلة أفولها حيث غيرت أسماءها وتنكرت لمشروعاتها وأدعت ديمقراطية زائفة أو اشتراكية باهتة. والغرب إن قبل التعايش مع ثقافة وقيم الآخر لاسيما الأمة المسلمة فإنه يريد أمة منزوع الدسم؛ أي أن إسلامية الدولة تكون محصورة في تطبيق الحدود وقوانين الميراث، حينها سيتجاهل الغرب تطبيق الحدود رغم أنها في ثقافته مناهضة لحقوق الإنسان، فالقيم المتجذرة في سائر مناحي الحياة تهدد طغيانه وتجبره واستئساده على الآخر أكثر مما تهدده تطبيق قوانين الميراث والحدود.

إن طغيان الغرب وعبثه بثقافة الآخر لم ينتج عنه نشوء عصبة وكلاء ومروجين لثقافته العلمانية فحسب، بل حتى الفريق المقاوم للهجمة الغربية والمعتد بثقافته والمنافح عنها قد أصابه شيء من لوثة غربية. فمع القناعة بأن كلا الفريقين متفقان على المبدأ والمرجعية الثقافية الاسلامية، إلا أن البعض يجتهد في أن تنزل القيم والتشريعات الاسلامية بشكل يبدو “مقبولا” أو ربما متماهيا مع ما يسمى في الغرب بالقيم الحضارية وهنا قد يضرب هذا الاتجاه المهرول بعضا من الأسس والقيم الإسلامية في سبيل “تسويق” مجملها للغرب، ومع ذلك لن ينالوا بذلك رضا الخصم مهما بلغت درجة التماهي. أما الفريق الآخر فيدعو لتطبيق القيم والتشريعات الإسلامية هكذا، أبى من أبى ورضي من رضي وهذا ما يفترض أن يتم، بيد أن هذا الاتجاه يصطدم كذلك باشكاليات وهي لحسن الحظ اشكاليات عملية وظرفية، متمثلة في الضعف العام وعدم الأخذ بالقوة ورباط الخيل، وما أجزم به أن تنزيل هذه القيم يحتاج للقوة والبأس فالخصم لا يقتنع الا بمبدأ القوة حتى يحترم الآخر وثقافته وقيمه.

المفكر المغربي المعروف بلقزيز انتقد بعض المتحمسين لتنزيل القيم الاسلامية فيما اسماه بالجموح المتزايد إلى الدفاع عن ممارستين شاذتين: (ممارسة السياسة في الدين)، بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، و(ممارسة الدين في السياسة)، من خلال بناء موقع قوي فيها باسم المقدس. فهل ينزع أولئك إلى استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة، وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، حيث أنهم يحاولون رد الاتهام عنهم بأنهم مجرد (تجار) سياسيين بالدين بقولهم (الإسلام دين ودولة)، أي عقيدة، وسياسة، واجتماع، ومع أن أكثرهم لا يكلف النفس عناء الاحتفال الكثير بالمسألة نظرياً؟. قد نتفق مع المفكر بلقزيز أن الممارسة الحالية فيها كثير من المخاطر بيد أن ذلك ينطوي على قدر بالغ من الخطورة على وظيفة الإسلام ذاتها، بحيث لا يعود الإسلام، مثلما هو في صميم منطلقاته، فكرة توحيد للناس في أمة، بل يتحول إلى سبب للفرقة والنزاع، وإلى عامل تفريق وتمايز داخل النسيج الاجتماعي الموحد. إن خسران معركة الداخل يفضي لنتيجة حتمية وهي خسران معركة الخارج.
yasir_mahgoub@

تعليقات
Loading...