د. ياسر محجوب الحسين يكتب :استفتاءات تقرير المصير.. مقاربات جدلية

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

أمواج ناعمة.. د. ياسر محجوب الحسين 

الجدل المحتدم حول شرعية استفتاءات روسيا لضم مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية، يكاد يسكن الفضاء الفاصل بين حدود المنطق والسيريالية. وفيما تقول كييف إنها مصممة على طرد الاحتلال الروسي من أراضيها التي ورثتها من الاتحاد السوفييتي السابق، ومن خلفها دول الغرب. تقول موسكو إن نتائج الاستفتاءات لصالح الانضمام لروسيا سبقتها استطلاعات للسكان تؤيد فكرة الانضمام. وأعلنت أن النتائج بلغت في دونيستك (99.2%)، في ولوغانسك (98.4%)، وفي زاباروجيا (93.1%)، وفي خيرسون (87.5%). وتشكل هذه المناطق مجتمعة نحو 20% من مساحة أوكرانيا). لقد نشأ مفهوم تقرير المصير تاريخيا مع موجة ثورات التحرر من الاستعمار الأوروبي. وفي عهود أسبق كان حق تقرير المصير ردة فعل مناهضة لمفهوم الحق الالهي أو السلطة السياسية غير المقيدة بالقانون، والذي قامت عليه انظمة الحكم في العصور الوسطي المسيحية في أوروبا أو عصور الظلام، حيث كان اقليم الدولة وسكانه يعدان ملكا خاصا للحاكم وذلك وفقا لنظام الاقطاع الذي ساد خلال تلك العصور.
اليوم تجادل موسكو بأن حق تقرير المصير، هو أمرٌ معترفٌ به دوليا ومكفول بموجب العهود والقوانين الدولية، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966، الذي ينص على “أن جميع الشعوب لها حق تقرير مصيرها بنفسها وهي حرة في تقرير مركزها السياسي وتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”. وتجادل كييف بأن روسيا احتلت أراضيها وأجرت استفتاءات قسرية تحت أسنة الرماح. خبراء السياسة يقولون إن تعريف مصطلح حق تقرير المصير من الناحية السياسية يشير إلى “حق كل شعب في حكم نفسه بنفسه واختيار نظامه السياسي ومستقبله اختيارا حرا علي ان يكون هذا الشعب مقيم في ارضه بصورة مستمرة”.
لو أن النظام القائم في أوكرانيا التزم الحياد ولم يستجب لتحريض الغرب وأعلن أنه ليست له حاجة للانضمام إلى حلف الناتو، لجنب أوكرانيا هذا التدمير البنيوي واقتطاع اجزاء منها لصالح روسيا من قبل أن تتأزم العلاقات مع موسكو، على اعتبار أن ذلك كان يشكل أهم الضمانات التي تطالب بها روسيا، ولما وقف العالم أجمع على حافة حرب عالمية نووية ثالثة.
ومع حفلات الضم المثير للجدل ستجد روسيا أنها أمام واقع جديد مثقل بالأعباء في الأقاليم الأربع التي ضمتها إليها، من ذلك إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وقيل أن ذلك يتطلب نحو 35 مليار دولار لكل إقليم. ولربما تعول موسكو على استرجاع هذه الأموال وهي تعلم الأهمية الاقتصادية لهذه الأقاليم. يقال إنه خلال الحقبة السوفيتية تم انشاء صناعات ضخمة في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون وهو ما شكل أساس اقتصاد أوكرانيا. وتعتبر خيرسون وحدها المورد الأساسي للحبوب ليس لأوكرانيا فحسب وإنما لكل أوروبا.
بعيدا عن ما يجري في أوكرانيا يلح تساؤل عن تقرير المصير، من يمنحه ومن يستحقه؟. في القرنين الماضيين، ومن جانب واحد قررت الدول الاستعمارية بضربة لازب مصير الدول التي تستعمرها. لقد اقتسم المستعمرون الأوروبيون المستعمرات، وكأنها خالية من السكان وكأن لا تاريخ لها، ولا كيانات سياسية فيها، ولا علاقات تربط بين شعوبها. واقُتسمت قطعا مُستطيلة أو مُربعة، تفصل بينها حدود مُستقيمة أو بحيرة، أو مجرى نهر، أو سواه؛ ففرقوا شعوبها شذرا مذرا، وشرزموها أمما. ولما استقلت تلك المستعمرات، نشأت فيها عدة مشاكل تحتاج إلى معالجة دقيقة للعودة إلى الأصول، وللجمع بين الشعوب الممزقة على أسس تاريخها واثنيتها، وما لهذه الإثنية من عادات وتقاليد ومعتقدات، وما فيها من ثوابت اجتماعية وعرقية، وسياسية، ومثال ذلك وجود العرف فى ثلاث دول هى ارتريا واثيوبيا وجيبوتى. ومن ناحية أخرى وبسبب الصراعات التي زرعها المستعمر، أصبح حق تقرير المصير يرتبط كذلك بمطالب بعض الجماعات العرقية أو الدينية في الانفصال عن وطن الأم وتكوين دول جديدة.
فإن كانت المطالبة بحق تقرير المصير لقيام دولة مستقلة، فليست كل الدولة التي قامت استنادا إلى تطبيق هذا الحق في السنوات الأخيرة تمتلك مقومات الدولة القابلة للاستمرار والنجاح. بل إن ظروفا سياسية إقليمية ودولية بما في ذلك موازين القوى العسكرية، فرضت قيام دول جديدة دون أن تنطبق عليها شروط حق تقرير المصير لا من الناحية القانونية ولا من الناحية السياسية. في العقدين الماضيين تعرضت 5 دول عربية لخطر التقسيم تحت حجج ومزاعم حق تقرير المصير، بل انشطر بعضها بشكل رسمي معترف به دوليا مثل جنوب السودان وآخر بدون اعتراف مثل الصحراء الغربية وجمهورية أرض الصومال. بينما كردستان العراق بدأت خطوات من جانب واحد لكنها لم تكتمل، أما كل من اليمن وليبيا فتنتظران دورهما.
لعل السبب الرئيس والعامل المشترك في تلك الانشطارات كان ضعف الدولة المركزية ووهن سيطرتها على أراضيها، وليس السبب كان انطباق شروط تقرير المصير سواء من الناحية القانونية أو السياسية. فدولة مثل الصين لن تسمح بانفصال تايوان عنها. كما ليس من المتوقع أن يحصل الكاتلونيون على استقلال اقليمهم عن أسبانيا. ولن نسمع يوما بأن حق تقرير المصير قد منح لسكان أستراليا الأصليين أو الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا يصبح حق تقرير المصير بمرجعيته القانونية قابلا للتطبيق إلا لشعب يعيش على ارضه، ويشغلها بصورة مستمرة غير متقطعة كما ينطبق على الشعب الفلسطيني، ولا ينطبق على جماعات الشتات الاسرائيلية التي احتلت أرض فلسطين، ولم يستطع القانون الدولي إعادة الحق الفلسطيني المسلوب طالما ظلت اسرائيل كيانا جاء بإرادة القوى المستعمرة.

تعليقات
Loading...