د. ياسر محجوب الحسين يكتب: اللاجئون.. تجاهل الثمن الإنساني. 

الخرطوم :مرايا برس

الخرطوم :مرايا برس 

أمواج ناعمة.. د. ياسر محجوب الحسين

لقد حوّلت مأساة اللاجئين المرفوعة اليوم على أسنة الإعلام كلمات الشاعر نزار قباني من غزل إلى تراجيديا، وكان يصف معاناته مع الحب قائلا:

لو أنِّي أعرفُ أنَّ البَحرَ عميقٌ جِداً
ما أبحرت..
لو أنِّي أعرفُ خاتمتي
ما كنتُ بَدأت..

وقال قباني في قصيدة أخرى وهي قارئة الفنجان:

وتجوب بحاراً وبحاراً
وتفيض دموعك أنهاراً
وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً

ليت تلك الدول التي جعلت من مأساة اللجوء بازارا للمساومات السياسية والكسب الرخيص، تعلم أن من لجأوا إليها هاجرين أوطانا أحبُّوها بكل مشاعرهم، وأراضيَ طاهرةً قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراث الأنبياء. فليس الوطن مساحة جغرافية، أو مجرد مسقط رأس، أو مكانا يعيش فيه الأهل، أو مكانا للرزق. وليس كذلك حب الأوطان مجرد مشاعر تقترب من حدود الشعر، بل الأمر أعمق من ذلك دلالة إذ يجري حب الوطن في الإنسان مجرى الدم.

اليوم تصرخ أوروبا، وهي من أغنى المجموعات الدولية وأكثرها استعمارا وتنكيلا ونهبا لثروات الشعوب الأخرى في زمان قريب غير غابر. بل إنها تولول بأعلى صوتها بأن حدودها وتخومها تنوء بنحو 710 آلاف من اللاجئين منذ بداية العام الجاري، بينما أقرت ألمانيا من قبل أنه يمكنها وحدها استيعاب نحو 500 ألف من طالبي اللجوء السياسي سنويا لعدة أعوام، بينما يضم الاتحاد الأوروبي 27 دولة بالاضافة لبريطانيا التي انسحبت منه مؤخرا.

وفيما يعاني النظام العالمي لحماية اللاجئين من الانهيار شبه التام؛ من إفريقيا وآسيا مرورا بشوارع بلاروسيا الباردة وإلى حصون الاتحاد الأوروبي المشددة الحراسة. تقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنه يتم ترحيل نحو 30 شخصا قسرا من منازلهم كل دقيقة، ففي العام 2017 وحده رُحّل نحو 65 مليون شخص قسراً في جميع انحاء العالم بسبب الاضطهاد والصراع والعنف أو انتهاك حقوق الإنسان. وتلك أزمات خلقها الاستعمار وأورثها للبلاد المستضعفة بيد أنه يمضي اليوم متجاهلا آثارها ومتنصلا من المسؤولية. وبينما يختبئ مسؤولو تلك الدول المستصرخة خلف حدود مغلقة وخداع إعلامي، فقد غضوا الطرف عن استضافة بلدان فقيرة، في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا، نسبة مهولة من إجمالي اللاجئين في العالم لا تقل عن 86%، بل إن هذه الدول والحكومات، تتجاهل معظم مناشدات تقديم المساعدات الإنسانية، التي تطلقها وكالات الأمم المتحدة وتركتها شبه مفلسة لا تستطيع إطعام اللاجئين بصورة تتماشى مع ضرورات الحد الأدنى للكرامة الإنسانية.

لقد قفزت مشكلة اللجوء إلى قمة أجندة المشاكل الدولية المزمنة خلال السنوات الأخيرة، وضاقت أوروبا بها ذرعا وطفقت تلتمس الحلول بكل السبل الميكافيلية وفي أي مكان وبأي وسيلة وطريقة إلا طريق العدل وإحقاق الحقوق. لمَ لا والميكافيلية ثقافة أوروبية في الأصل منذ القرن الخامس الميلادي من لدن نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي الفيلسوف الإيطالي. فاليوم أوروبا تحاول اتباع أي وسيلة لوقف موجات اللاجئين عبر سياسات أنانية ومصلحية آثمة دعمت ومازالت تدعم عبرها الأنظمة القمعية للدول مصدر اللاجئين. ولم يعد المشكل كما كان في السابق مجرد ترفا تنشغل به الحكومات والمنظمات الطوعية لإظهار “إنسانية” العالم المتحضر وللتعويض النفسي جراء الشعور بالتقصير تجاه عالم استعمروه سنين عجافا ويسمى ثالثاً ومنكوبا بالحروب والأزمات السياسية. وعبرت منظمة هيومان رايتس ووتش قبل أعوام عن غضبها على اتفاق أوروبي مع دول إفريقية لتقوم بدور الشرطي أو العميل المخابراتي لاستعادة مواطنيها اللاجئين من جحيمها مقابل بضعة ملايين من الدولارات، فقالت المنظمة في بيان لها: “إن من السخرية وغير المتصور تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا”.

إن لم يتمكن العالم المتحضر زعما والمزوّد بكل أسباب القوة المادية والعسكرية من فرض الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة على الأنظمة الديكتاتورية بسبب تضارب المصالح، فإن ذلك يتم بممارسة النفاق عبر حلول جزئية تذر الرماد على العيون ولا تقرب الحلول الجذرية والمستدامة التي ثمنها التضحية بالمصالح المرتبطة بدعم الأنظمة الفاسدة الباطشة. الإثم الأوروبي دعا قبل عدة سنوات منظمة أطباء بلا حدود التي تتخذ من مدينة جنيف مقرا لها لرفض أي تمويل مصدره الاتحاد الاوروبي، وقالت إن ذلك احتجاجا على سياسات الردع المخزية التي ينتهجها وتكثيفه الجهود لإبعاد المهاجرين عن الشواطئ الأوروبية.

إن الحلول العملية والواقعية التي ترفضها الدول الكبرى لأزمة اللاجئين وتطرحها المنظمات المعنية باللاجئين وحقوق الإنسان عموما، تتمثل في فتح طرق آمنة وملاذات لللاجئين، بما في ذلك السماح بلم شمل العائلات وجمع الأشخاص بأهاليهم، ومنح اللاجئين تأشيرات دخول حتى لا ينفقوا كل ما لديهم ويتعرضوا لخطر الموت غرقاً وهم يحاولون الوصول إلى الأمان. كذلك يتضمن ذلك إعادة توطين اللاجئين الذين يحتاجون إلى ذلك. فإعادة التوطين حل في غاية الأهمية لمعظم اللاجئين المستضعفين- بمن فيهم الناجون من التعذيب وأصحاب الأمراض المزمنة.

وترى المنظمات الحقوقية أنه سواء كان اللاجئون يرتحلون براً أم بحراً، ينبغي أن يسمح لجميع الفارين من الاضطهاد أو الحروب باجتياز الحدود، سواء أكانوا يحملون وثائق سفر أم لا. وأن إعادتهم بالقوة أو وضع الحواجز الضخمة في طريقهم سيؤدي إلى أن يسلكوا طرقاً أشد خطورة التماساً للأمان. كما ينبغي التحقيق بشأن عصابات الاتجار بالبشر ومقاضاة أعضائها الذين يستغلون اللاجئين والمهاجرين، وإعطاء الأولوية لسلامة الأشخاص فوق كل اعتبار.

لا حل نهائيا لأزمة اللجوء إلا بإنهاء النزاعات والاضطهاد اللذين أجبرا الناس على الفرار من ديارهم في المقام الأول. ومن المفارقات المدهشة أنه عوضا عن إنفاق الحكومات الأوروبية مليارات الدولارات على مراقبة الحدود، كان يجب عليها توفير التمويل الكامل لتخفيف أزمة اللاجئين على صعيد العالم بأسره.

تعليقات
Loading...