عثمان الشيخ يكتب :صناعة المليونيرات في أمريكا.

مرايا برس - الخرطوم

كان عدد المحاضرين السودانيين في ستينات القرن الماضى فى جامعة الخرطوم من حملة الدكتوراة والبروفسورات أقل من عدد الأجانب و غالبيتهم بريطانيون. هناك هنود و باكستانيون و مصريون وأمريكان و يوغوسلاف وفرنسيون و غيرهم.
درسنا دكتور ليي
Dr. Lee الأمريكي
في السنة الثانية. لم تكن المذكرات المطبوعة متعارف عليها في زماننا ذاك مثلما كانت في الجامعات المصرية. كنا نعتمد على الكتابة المباشرة من المحاضر و كنا نستعمل دفاتر ورقية فلسكاب.
متوسط حصيلة ما نكتبه من المحاضر السودانى ٣ أو ٤ صفحات فلسكاب و ما نكتبه من المحاضر البريطاني ٦ صفحات و من دكتور ليي الأمريكاني عشرة صفحات و هو أمر شاق جدا مع الكتابة اليدوية.
سبب اختلاف عدد الصفحات هو سرعة النطق و تبسط المحاضر السودانى وهيبة المحاضر البريطاني وسرعة نطق المحاضر الأمريكي وال American English غير المفهوم احيانا.
عانينا كثيرا من صرامة دكتور ليي الذي يقذف كلماته بالإنجليزية الأمريكية طيلة الستين دقيقة لا يتوقف فيها ثانية.
اشتكى كثير منا من ضعف مقدرته على التقاط الكلمات و تسجيلها. كنا نحمل هما ثقيلا من محاضرة دكتور ليي و تنبأ بعضنا بالملاحق Sup في مادته تشاؤما و توجسا .
تفتقت عبقرية أو (شقاوة) واحد من الطلاب الذكور و قال لنا سأحول المدفع الرشاش إلى شيئ أقل ضررا . كان الغرض أن يرحمنا الخواجة الأمريكاني أن يبطئ قليلا.
كانت الخطة أن يضع كل منا دفتر الفلسكاب في وضع مقفول و فوقة قلم الحبر و ان تكون أيدينا في وضع استرح بلغة الجيش.
لحسن الحظ كانت محاضرة دكتور ليي في السابعة صباحا.
دخل دكتور لي و بدأ يطلق رصاص الكلمات و لكنه فوجئ بتغيير وضع انتباه إلى وضع استرح. سألنا بعفوية وحنية ابوية : مالكم لا تكتبون؟ قلنا له : تعبت اصابعنا من كتابة المحاضرة ستين دقيقة بلا توقف . نريد منك رجاءا أن تحدثنا في هذا الصباح الجميل في أي موضوع خارج إطار المقرر . اكتشفنا ان دكتور ليي يتمتع بلطيف كثير. لم يمتعض و لم يحتج بل تجاوب مع رجاء التعديل و استجاب و لأول مرة صار يتحاور معنا حيث كنا في السابق نستمع و نكتب عادة ما يكون الحوار في وقت المناقشة Seminar. وافق دكتور ليي على تغيير موضوع المحاضرة. سألنا في أي موضوع تريدونني أن أتحدث ؟ اقترح أحدنا ان يحدثنا عن امريكا. سعد جدا للسؤال و ضحك و كانت تلك اول مرة نرى أسنانه لأنه كان جم شعر الرأس واللحية والشارب و لا أظنه ىاخذ من شعره شيئا حيث لا يظهر حنكه و لا وجناته و لا شفائفه كان وجهه كتلة من الشعر الأحمر الكث.
قال اختاروا موضوعا بعينه. اقترح أحدنا بالصدفة المحضة: حدثنا عن المليونيرات في أمريكا نسمع عنهم كثيرا و لا نعرف عنهم الكثير .
وجه السؤال إلينا قائلا : ما هي أفضل المهن عندكم بعد التخرج ؟ اجبنا كلنا إجابة نمطية. الطبيب ثم المهندس ثم الطبيب البيطري ثم الزراعي ثم الصيدلي ثم القضاة و المحامون ثم الاقتصاديون و المصرفيون ثم الضباط الإداريون ثم المعلمون.
بعد سرد لائحة المهن ضحك كثيرا قائلا عندنا في أمريكا الطب أقل المهن شهرة لذلك نادر أن تجد الأمريكاني الأصيل يختار دراسة الطب و يتركونها للأمريكان من أصول أخرى مثل المكسيك و الآسيويين و البحر الأبيض المتوسط . كانت الإجابة صادمة لنا أن يكون الطبيب في امريكا متخلفا على غيره من الخريجين و هناك من هو أعلى مقاما منه ومن هو؟ . سألناه لماذا؟ أجاب ألم تسألوني عن المليونيرات؟ قلنا بلى. بدأ يسرد لنا كيفية صناعة المليونيرات في أمريكا. لاحظوا إستجابة دكتور لي و ديمقراطيته و دبلوماسيته. مضت الدقائق سريعة فتحولت المحاضرة إلى مادة اختيارية.
كان يكثر الإهتمام بالزمن ومعرفة ساعة انتهاء ساعة الأشغال الشاقة هو الشغل الشاغل بعكس محاضرة ذلك الصباح حيث سرت في القاعة حيوية وحميمية ودفء بين الدكتور ليي وطلابه لأول مرة.
كنا متشوقين لنعرف أسرار صناعة المليونيرات في أمريكا.
قال دكتور لي : يحدد طالب الثانوية مهنته و حرفته في المستقبل في آخر سنوات دراسة ما قبل الحامعة وليس مثلكم تتحكم في ذلك عوامل أكاديمية و مادية و اجتماعية . مجالات التخصص في امريكا كثيرة مثل العمل في الانتاج الزراعي بأنواعه المختلفة و التعدين و الثروة الحيوانية و غيرها من المهن الإنتاجية. هناك الكثير من المهن الخدمية مثل الغناء و الموسيقى و الطب والصيدلة والتعليم و الرياضة و المسرح و الكتابة الاحترافية… الخ.
إذا إختار الطالب أو الطالبة الإنتاج الزراعي عليه أن يتخصص في زراعة المحاصيل مثل القمح و الذرة الشامي و القطن و الشعير و الفول السوداني و فول الصويا أو الخضروات أو البستنة الخ. أما إذا إختار الإنتاج الحيواني فعليه أن يتخصص في تربية الأبقار لإنتاج الألبان أو اللحوم أو الضأن أو الخنازير أو الدواجن البياض و اللاحم و هناك أنواع أخرى من الدواجن.
اما اذا اختار التعدين عليه التخصص تحجير ام تنقيب؟
كلها تخصصات إنتاجية.
يختار الخريج/ة اي ولايه يفضل الإنتاج فيها فيتقدم بطلب إلى سلطات الولاية للتصديق له بالعمل في مجال تخصصه. في العادة تمنحه الولاية ترخيصا في مكان غير مطروق حتى لا يصير مقلدا مثلنا.
يستلم الخريج/ة التصديق و يتجه إلى الشركات الاستشارية التي ت َ تُعد له دراسة الجدوى الإقتصادية و الفنية و التكلفة المالية. ثم يذهب إلى جهة أخرى تصمم له مشروعة و يذهب للبنك للتمويل حاملا معه كل الدراسات و التصاميم و الخرط وجداول الكميات وجداول التكاليف. يوقع الخريج/ة اتفاقا بينه و بين البنك الممول يتضمن جداول الدفعيات و فترة السماح و جدول السداد.
ثم يذهب لشراء المعدات و كل متطلبات مهنته و في حسابه المصرفي مودع من الأموال ما يمكنه من دفع قيمة كل مشترواته من إصلاح للأرض و تأسيس و مباني وتوصيات مياه وكهرباء و غيره.
بعد اكتمال المشروع يذهب الخريج/ة للإقامة في مشروعه ليصير هو صاحب المشروع و مديره و بيطريه و خبيره الزراعي و مهندسه و عامله و مديره المالى.
بعد إنتهاء مرحلة التأسيس يبدأ الخريج/ة مرحلة الإنتاج و التسويق ليتحول الخريج إلى منتج و تاجر. يبدأ الخريج/ة بعد فترة السماح في السداد حسب الجدول الزمني.
بعد السداد يكون عمليا هو مالك المشروع و يبدأ في إضافة صافي الإنتاج و الببع بالكامل له فيتحول الخريج إلى منتج إلى مالك الإنتاج و الموزع و المصدر.
إذا كانت تكلفة المشروع ٢٠ مليون دولار و السداد ٥ سنوات اي ٤ مليون دولار سنويا.
بعد سداد التزاماته تدخل العشرين مليون دولار صافية في حسابه المصرفي. و بعد عدد من السنوات تتراكم عنده كل هذه الملايين فيصير مليونيرا.
استمتعنا بمحاضرة حصرية في غاية المتعة و الإثارة تمنينا أن يمتد زمنها أكثر من ساعة.
شكرنا دكتور لي على حسن الإصغاء و على إتاحتنا له الفرصة ليتحدث خارج المقرر.
تحول دكتور ليي إلى صديق لكل الدفعة و تحولت محاضرته من الأشغال الشاقة إلى محاضرة جاذبة .
لم تطل إقامة دكتور ليي في جامعة الخرطوم لأنه كان متعاقدا لعام واحد.
ملخص الحديث ان المناهج الأمريكية تساعد بواقعيتها ومرونتها و احترافيتها المواطن/ة ليكون منتجا و فاعلا إقتصاديا و مستقل الشخصية ( المجتمع الرأسمالي) في الوقت الذي تقولب مناهجنا الموروثة من الإستعمار البريطاني، بعد إجراء تعديلات طفيفة بسودنتها، و تحول الخريج/ة إلى إنسان بطيئ الايقاع مستهلك كثير النقد والاحتجاج.
نحن ، بكل أسف ، خريجو الجامعة البريطانية، مسئولون مسئولية مباشرة عما أصاب مجتمعنا و أمتنا و بلادنا من تخلف مذر اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا و سياسيا.
ربما أتمكن في سانحة أخرى للحديث عن صناعة المديونير أو Job Slavery في السودان أو أن اراد غيري ذلك فذلك مسموح و مطلوب.

تعليقات
Loading...