د. أنس العاقب في تحليل فني إبداعي لأغنية رجعنالك

الخرطوم :مرايا برس

الكلمات عبد الباسط سبدرات
اللحن بشير عباس
الغناء ثلاثي البلابل
الشاعر عبد الباسط سبدرات كتب قصيدته مبتدرها بجملة عجيبة البناء والتكوين تتدافع فيها المعاني والدلالات في (بيت القصيد) الإفتتاحي ….
رجعنالك وجينا غفرنا إنك بالوشاية فصدت كبد الفرحة فينا. 
تسع كلمات جاءت فى نسق شعري جديد تلهث فيه تلك الكلمات لتقرر ثم تقر وتعترف في كلمتين فقط (رجعنالك وجينا) فهل هي عودة مزدحمة بالأشواق والعتاب؟. أم هى رجعة جاءت ملتاثة في حالة بعاد مقصود أم في وحشة خصام متبادل أسيف ؟ ومع ان الشاعر أكد لمحبوبه (ها انا قد عدت إلى سوح محبتك الوريفه متناسيا ما حدث لأنك انت الأسمى من كل العوازل والوشاة الذين مشوا بيننا) .
هذا القادم المفئود أراد ان يبرئ جراحه ببراءة المحبوب وكأن شيئا لم يكن ، ذلك لأن الحب هو الحياه وفى الحب ما أجمل واوقع أن يحتمل المحب وزر المحبوب وطيشه أحيانا حتى ولو كان هو الطرف الضعيف فى تلك
العلاقه the weaker part in the bargain ولو لبعض الوقت لأنه لا يكسر حدة التأبي والعند سوى الإعتذار الهفيف مغلف بكلمات وجلى مشاغبه ليتدفق الشلال على مجرى نهر الحب وسنرى ونستمع كيف أن الشاعر أفاض فى حالة ماقبل الرجوع وجعا وحزنا وضنى واستفاض فى بث مشاعرما بعد الرجوع فقد ظل يمسك بزمام كلمة ( رجعنالك) يرددها واصفا حاله بين الفقد والضياع حتى كادت الحياه ان يتوقف نبضها وهذا ما تضج به بواطن الكلمات التي شاء ولم يشأ أن يجليها صراحة وإن بدا أيضا متفائلا يتقافز فرحا فى حياء محب صادق…
هذه رؤية قلم كاتب احب القصيدة بكرا واندغم فيها جزلا بتكوينها الموسيقي والغنائي يتأسى وكأنه كاتبها (ولا يستطيع) … فكيف كانت قراءة بشير عباس للقصيده ؟ وكيف فهمها ؟ بل كيف إستطاع ان يستقرئ ما ظل مستبطنا من المعاني (الجوانية) فيجزؤها ليخرج بهيكلة أغنية شدت بها البلابل حوالي عام 1974 وكن ثلاثة فتيات نضرات أكبرهن لم تبلغ العشرين فقد كن teenagers برزن وسط عالم غناء وموسيقى يعج ويضج بضخام المطربين والملحنين والموسيقيين وجمهور ذواق مكتمل الدسم طلاقة واناقه وشغفا بالغناء بلا حدود .. وبشير عباس نفسه منذ طفولته الباكرة وصباه كان يبشر بأنه سيكون رقما يشار إليه فى سوح الغناء والموسيقى بل إستطاع ذاك الصبى ان يقتطع لنفسه مكانا وسط حديقة غناء جمعت كل الألوان الزاهية والثمار اليانعه ولم يزل بها يتعهدها ويروِّيها بأجمل مؤلفاته الموسيقية وأعذب الحانه الغنائيه التي صدحت بها كواكب المغنين والمغنيات وردده من بعد عشرات من المطربين والمطربات .
ولكي لا يجرفنا الحديث بعيدا عن بشير عباس الموسيقي عازف آلة العود (الفيرتيوزي) والموسيقار مؤلف عشرات المقطوعات الموسيقيه التي أثبتت علو كعبه فى مجال التأليف الموسيقي وهو مجال صعب الدنو منه فاقتحمه بشير عباس وطاف به يغني بلا كلمات يسميها ويسمو بها نحو اقرب الناس إليه من الأم والزوجه والإبنة والحفيده ثم طاف بمقطوعاته تعانق الخضرة والأماكن والمدن التى أحبها وأحبته ولم ينس بشير عباس ان يتلمس الأحاسيس والوجدان ووطنه السودان . إن بشير عباس المؤلف الموسيقى لو اجتهد الكتاب والمحللون والنقاد وبعض الأكاديميين لإكتشفوا انهم امام أهم واعظم مؤلف موسيقى تميزت مؤلفاته بخصوصية مفرده وخصائص مستجده ومتجدده (وهم قادمون) …
فلنعد لبشير عباس الملحن وأنا لست بصدد سرد يؤرخ لألحانه الغنائيه على كثرتها وأهميتها مرحليا عبر مسيرة عقود سته ولكنى أخترت فى البدئ اغنية ( رجعنالك) وكيف أن بشير عباس إستطاع أن يحول نص الشاعر عبد الباسط سبدرات إلى نص امتزج فيه المعنى البراني بالمعنى الجواني الذى ماكان ليخرج ويقدم واحده من اجمل واعمق الأغنيات التي صدحت بها البلابل فى القرن العشرين وقد قلت وأطدت بأن أغنية رجعنالك تعد من بين افضل مئة أغنيه جادت بها قرائح وعبقريات الشعر والتلحين والغناء ..

تحليل الأغنيه..
رجعنالك وجينا
غفرنا إنك بالوشايه
فصدت كبد الفرحه فينا…
هذا هو مطلع أغنية رجعنالك فكيف فسر بشير عباس تلك الحاله الوجدانيه التى عاشها الشاعر وصاغها فى مقدمه موسيقية ورتب فيها الفكره فى جمل لحنيه ذات مدلولات عاطفيه ووزعها فى تبادل محكم بين الآلات والأوركسترا
يتسلل عزف منفرد على الكمان قادم من مفازات بعيده فى أداء يتقلب بين الأنين والبكاء ودفق بالحنين والشجن والأسى ثم
الأوركسترا تشارك هذا الحزن والضياع بخطى وئيده وأدخل بشير عباس نصف التون ليعطي الأحساس بالدموع
تبدأ الكمانات فى أداء لحنى متقطع الإيقاع وكانه إيذان بالعوده أو لربما هوخطوات التقدم ولكن
الأوركسترا مجتمعه أخذت تردد اللحن المتقطع بإنسياب وتمهل وتستفيض فيه يشاركها الإيقاع بالحوار ثم
يعود اللحن المتقطع مرة أخرى ولعله هذه المره قد إستأذن .. هل ستبدا رحلة العوده حقيقة وكيف ..؟ وهنا
يتراجع اللحن يردد لحظات الحزن والضياع كانه يستدرج الماضي أوربما يعود فيه..ثم
تسمح الأوركسترا للبلابل بالغناء لإستكمال معاني المقدمه بصوت هادئ شجي حزين … (رجعنالك) نعم … وتتساءل الأوركسترا
(وجينا) بالتأكيد ولكن لماذا ؟
( غفرنا إنك بالوشايه فصدت كبد الفرحه فينا )
اللازمه ا لموسيقيه تتحول إلى حيوية وتفاؤل.. ولكن مايزال هناك حزن دفين …
ثم ماذا يا سبدرات وماذا يا بشير ؟؟أ
أنا اعتقد أن التطريب هو ملكة فردية لحظوية وسريعه أثناء الأداء الغنائي كما عند عبد العزيز داؤود واحمد الجابرى ومحمد ميرغني وخوجلي عثمان مثلا ولكن أداء البلابل كان على درجة من التطريب المنضبط الذي منحنا الإحساس بحزن وجيل مشوب بوله وأشواق متراكمه منذ زمن تهفو بأمل ريان ..
جاء إستهلال الغناء من مقطع متصل مكون من تسع كلما..
رجعنالك وجينا غـفرنا إنك بالوشايه فصدت كبد الفرحه فينا
بشيرعباس وقد فهم النص ما كان بمقدوره كملحن أن يجزئ إنسياب اللحن بأي شكل من أشكال التلحين وإلا سيكون قد حور المعنى اللحني لأن هذا المقطع كان يجب فى تقدير الملحن بشير عباس ان يزدحم بأحاسيس متباينه يعود بها المظلوم غافرا للظالم في سخاء وتجرد ويعود الشاعر يشرح حاله فى غياب المحبوب وهنا
يرتفع اللحن ليؤكد هذا النواح والبلابل يتفجرن به غناء
( رجعنالك وعينينا البكت) كيف؟
(فجعت روموشا دموع سخينه)

والبكاء عندما يكون نهناها يجئ صوت الغناء خفيضا وهو أكثر انواع البكاء تعبيرا عندما ينحبس صوت الحزن فيجهش بأنين خافت..
(بي فرح عودتنا)
شرق التعبير بالدموع ثم طار بأجنحة الشوق يغني
(رفت)
والموسيقى رفت أيضا فى أداء متقطع
(زغردت)
هنا قرر بشير عباس أن يعبر عن لون الفرح بإدخال نغمة سادسه مفقوده أصلا فى سلمنا الخماسي ” الشمال وسطي” الذى برع فيه هو وكثيرون آخرون وبذلك يكون بشير عباس ـــ وكما أشرنا فى المقدمه ـــ قد أكمل تعامله مغازلا السلم السباعي من بعيد لبعيد ويتواصل غناء ثلاثي البلابل
(كلمات حنينه)
بأداء عذب مفعم بفرح طروب وأسيان وهنا يتدخل بشير عباس ويدفع بالإيقاع السريع كي يتدخل ليؤكد هذه (الرجعه) وليبدا مهرجان الفرح في إيقاع رباعي وينشأ حوار بين آلات الأوركسترا والأكورديون والباص جيتار والجيتار الغنائي ـــ Lied Guitar ـــ الذي يتقافز فرحا ثم يتداعى اللحن مرة أحرى متراجعا يستدعي الماضي ويفسح للبلابل إكمال المعانى
( رجعناك عشان تاه الفرح من دارنا) وانت بعيد
(رجعنالك وانت ديار فرحنا) كنت وستظل
( رجعنالك عشان ناحت سواقينا) بكاءً وجيع
( رجعنالك وبكت شتلات قمحنا) تتمايل حزنا ..
ثم ينفجر النويح والإعتراف الوجيل والعتاب الصريح الجهير
(رجعنالك عشان يسكت جرحنا الإنت جارح قلبوبجراحاتنا إحنا)
هذا هو بيت القصيد الذي تجرا فيه المحب المظلوم وصدع بكلمات عتاب لوامه.. رجعنالك … رجعنالك … رجعنالك ….
هل هو قرار بالعوده ؟ أم إستعطاف ؟ أم تباه وإمتنان بفرح العوده ؟ أم هو عتاب نبيل من محب ضائع (مكتول كمد) لمحبوب (مخدوع بالأماني).. المحب ليس بعيدا عن محبوبه فهما معا وجدانا وإحساسا وبعيدان وجودا واحدا لأن فى حالة البعاد تختل الدنيا وتميد وتخلو من الفرح الغامر وحنين السواقى وتذبل السنابل وتتفتق الجراج…
أراد بشير عباس أن يعبر عن إزدحام هذه العواطف واحتدامها ولم يكن أمامه إلا ان يشكلها فى جملة موسيقية تتداعى فرحا بين آلآت الأوركسترا فى حنان جياش بل حتى الباص جيتار صاحب الصوت الغليظ أكد على ذلك مهمهما والأكورديون متهللا ليندغم الجميع في ما يشبه حلقة ذكر وقد إستبد بها الوجد وحنين الفلوت من بعيد يتصاعد ثم يختفي ولا يلبث ان يعود ويصدح بجناح ترنيمة ملائكيه …
المؤلف المتمكن هو الذى يعطي القصيده بعدا جوانيا يضفي على المعني عمقا وسحرا وجاذبيه وهو الذي يجعل الأوركسترا تغنى ولكن بلا كلمات وحالما ينتهي هذا الفرح الطاغي يفاجؤنا بشير عباس بإيقاع أهلنا الشوايقه (الفنانين الغنايين) وتأتي المفاجأه بتباطؤ اللحن الموسيقي جاء طبيعيا ليمهد للبلابل أن يصدحن بالغناء فعندما تتداعى الجمله الموسيقيه يصبح من المحتم إما الغناء أو إنتظار شئ آخر وفعلا يدخل إيقاع الدليب يؤكد نفسه ووجوده ثم فى عبارة قصيره تتراقص وتتراقص والبلابل بصوت غنائي عذب ودافئ
(رجعنالك وكيف نرفض رجوع القمرا لى وطن القماري)
وإذا لم يسمع المحب يتكرر اللحن وإذا لم ينتبه فإن صوت البلابل يتصاعد مؤكدا ولائما ثم ينطلق الغناء يصف هذا الجمال الذى تحفه السكينه والحريه والحب الذى شمل الدنيا كما يصفها الشاعر سبدرات ، والدنيا التي صاغها لحنا بشير عباس ، والدنيا الإنسانيه التي إنبهرت وابتهجت بصوت البلابل ..
ولابد أن نؤكد هنا ان بشير عباس بأغنية رجعنالك قدم البلابل في تجربة ناضجه ومتقدمه تزاحم وتكاتف فيها صوت ( البنيات) مع عمالقة الغناء فى ذلك الزمان الجميل ..يا رعاه الله. ويتواصل الغناء
(كيف تقوقي علي نخيلاتنا القماري) ولأن اللحن جميل وبسيط وأخاذ فقد ظلت الأوركسترا تقلد الغناء عزفا ، فمن كان يغني ويشيل ومن كان يطمبر للآخر ؟ البلابل أم الأوركسترا ؟ فلنتخيل البلابل إندمجن فى الرقص على إيقاع الدليب والأوركستر تطمبر وفتيات الحيى يرددن الغناء (كيف تقوقي علي نخيلااتنا القمارى) ويا لها من صورة لحنية صاغها المؤلف الملحن بشير عباس .. وبالرغم من ذلك الزخم المهرجاني يعود بنا بشير عباس بلحن المقدمه مرة أخرى..
( رجعنالك وجينا غفرنا إنك بالوشايه فصدت كبد الفرحه فينا ) غير ان التكرار لا يحمل معاني الإستهلال بل هو هنا عتاب برهافة إحساس الشاعر وإبداع المؤلف الموسيقار وسحر غناء البلابل ثم يفاجؤنا بشير عباس فى بداية المقطع الأخير بلحن سريع على إيقاع التم تم ثم تتحاور فيه الأوركسترا مع الترومبيطه Trumpet فى مغازلة صريحه لا تكاد تنتهي ولكن البلابل يفاجئننا بصوت مرح وفرح على إيقاع السيره
(رجعنالك عشان إنت الجرف الفيهو شتلات حنه لي فرح القبيله) مقطع شعري مكون من 10 كلمات إستطاع بشير عباس أن يجعله ينساب فى هدوء حتى كلمة (حنه) ثم تكتمل الجمله بصوت صادح (لى فرح القبيله) وتستمر السيره
(رجعنالك عشان جرتقنا سيرتنا وجديله) ولكن المقطع التالي يكاد يستنزف صوت البلابل إلى أبعد مدى فهو لم يكن صراخا ولا هتافا ولكن كان إعترافا بآخر نفس فى التعبير
(رجعنالك نغني فرحنا فيك ونقول عديله)
( يفرح الليل بي فرح صندل يضوع يكسي القبيله)
ومع ما في أداء البلابل من حيوية فإن الإنسجام فى الأداء سمة لا تحطؤها الأذن ولولا ان ثلاثى الشقيقات البلابل يتمتعن بحاسة إبداعيه عاليه وذائقه فنيه متجذرة ما كان ممكنا أن يرتقى أداءهن بهذا المستوى المتكامل والواثق الإحترافي تمثل فى قمة التطريب والأداء الراقي وتظل أغنية رجعنالك هى التي قدمت لنا في سبعينات القرن الماضي شاعرا دافئ المعاني بديع الأخيلة والأسلوب واسمه عبد الباسط سبدرات واكدت لنا قامة وهامة وعظمة أضمامة لعازف وملحن ومؤلف وإنسان إسمه بشير عباس العبقري الذى لم يترك مجالا فى تلحين الغناء بكل انماطه والتأليف الموسيقي بكل ما فيه من خيال وتمكن إلا وقد طرقه مبدعا خلاقا وبشير عباس مع البلابل يذكر الناس عطاءا كان بالإمكان أن يظل ممتدا .. عطاء توقف طويلا بكل أسف ففي العلاقه بين بشير عباس والبلابل ملامح من أسطورة بيجماليون التى مسرحها برنارد شو … ثم تحولت لفيلم عظيم إسمه سيدتي الجميله أو My Fair Lady
رحم الله بشير عباس أستاذنا بحق عازف العود الفيرتيوزي الملحن الباهر والمؤلف الماهر والإنسان العظيم وسفير الموسيقى السودانيه شرقا وغربا
والله ولي التوفيق..

تعليقات
Loading...