د. الأمين عثمان شعيب يكتب : جبانة الكرو الكوشية الملكية.

تقع قرية الكرو على الضفة اليمنى للنيل على بعد نحو عشرين كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من جبل البركل، ولم يأت ذكر لهذا الاسم في أي من المصادر التي سبقت ظهور الأسرة الخامسة والعشرين. وليس بالقرية أي معالم أثرية يعود تاريخها إلى أبعد من تاريخ أسلاف ملوك الأسرة الخامسة والعشرين. ومما يؤسف له أن الكرو – في غير مقابرها – لم تحظ بتنقيب جاد للبحث عن آثار، وحتى يتم ذلك يرى عمر حاج الزاكي أن الملوك الأوائل عاشوا حيث دفنوا، فمن المحتمل أن أسلاف بيي نزحوا من مروي إلى الكرو، وظلَّ النازحون على صلة بجذورهم الأسرية مثلما يتكرر في سودان اليوم من استمرار للعلائق الأسرية بين من نزحوا من الإقليم الشمالي إلى مدن السودان الأوسط وذويهم في الشمال، علماً بأن أسماء بعض من قبروا في الكرو قد وجدت في مقبرة البجراوية الجنوبية، ومن تلك الأسماء كوشتو وبيي.
اضطلع لبسيوس بأولى الدراسات في هذه الجبانة عام 1844م، وبالرغم من عدم اكتمال الخريطة التي رسمها لهذا الموقع إلا أنها توضح أهمية هذه الجبانة، وقد أجرى رايزنر حفريات بها في عام 1919م، في الواقع، كان رايزنر قد قلل من أهمية الموقع في بداية الأمر أثناء عمله في المنطقة في الفترة بين (1916-1920م)، وهو آخر المواقع التي جرى تنقيبها في الإقليم. أدى– دون شك – الاختفاء الكلي تقريباً للجزء العلوي من هذه القبور إلى تقليل رايزنر من شأن هذا الموقع، غير أن أهميته ظهرت باكتشاف قبور الأسرة الخامسة والعشرين، بذلك وجد رايزنر نفسه مجبراً على الرحيل عن جبل البركل إلى منطقة الكرو حيث أقام معسكراً جديداً ليشرف بنفسه على الحفريات. يوجد الموقع على هضبة صخرية جانبها الغربي منحدر بشكل واضح بخلاف جانبها الشرقي الذي يتميز بانحدار خفيف يميل نحو الشرق.
أما موضع الجبانة فهو رابية في الطرف الشمالي من القرية ترتفع قمتها إلى نحو 13.5 متراً وتنحدر إلى كل الاتجاهات، ويقطعها واديان قديمان شقتهما الأمطار في عصور قديمة، يقسمان الموقع إلى ثلاثة أجزاء “أوسط وشمالي وجنوبي”. والرابية تبدو عادية للغاية وليس لها ما يميزها عن الروابي المنتشرة على مسافة العشرين كيلومتراً التي تفصل الكرو عن البركل، أو حتى تلك التي تقع إلى الجنوب من الكرو. حوى الجزء الأوسط من الجبانة – وهو الأقدم – مدافن ملوك الأسرة الخامسة والعشرين وأسلافهم، وحوى الجزء الجنوبي مدافن زوجات ملوك تلك الأسرة، أما الجزء الشمالي فقد شمل مدافن خيول بعض ملوك الأسرة.
مثَّلت الستة عشر مدفناً الأقدم تواتراً غير منقطع لأسلاف غير مسميين، تحولت مدافنهم بانتظام في الشكل، تقهقرياً في الزمن، إلى نوع تقليدي كوشي من المقبرة التلية (Tumulus) أما المقبرة الأولى من هذا النوع، فتحتل الموقع الأعلى في الجبانة، نسبها رايزنر إلى مؤسس الأسرة وأرخها ببواكير القرن العاشر قبل الميلاد.
توريخ الجبانة:
تحتل جبانة الكرو المكانة الأولى طالما كونها الأقدم، فهي تضم مقابر الأسلاف المباشرين لملوك نبتة وتقدم دليلاً لإعادة إحياء التقاليد الجنائزية الكوشية في فترة زمنية لم تقدم سوى القليل من البنية التاريخية المتماسكة – كما في كرمة. يشغل المدفن حفرة مغطاة بردمية فوقية (كوم) ويرقد المتوفى في وضع مقرفص على جانبه الأيمن على عنقريب؛ يحتل الرأس الجزء الشمالي والوجه نحو الغرب، وهو ما قد تم تبنيه من قبل لدى أهل المجموعة الثالثة خلال فترة المملكة المصرية الوسطى.
يشتمل القبر الكوشي الملكي على سلسلة من الغرف السفلية الكائنة تحت الأرض والتي يواريها هيكل فوقي ثقيل، والمتطلبات الرئيسة للجبانة الملكية كانت تتمثل في مساحة منبسطة بمستوى معقول ذات شرائح من صخر صالح ذي متانة يقوم مباشرة تحت السطح، هذه الشروط مستوفاة بأماكن وفيرة في المنطقة النبتية، في كلتا المنطقتين الواقعتين إلى الشمال والجنوب من السهل الفيضي النيلي، فالأماكن التي تم اختيارها بالفعل، في الكرو ونوري وجبل البركل كانت قد حددت قطعاً باعتبارات التركيب الجيولوجي من جهة، لكن عوامل أخرى لا بدَّ أنها لعبت دوراً مماثلاً.
استغرق التنقيب في هذا الموقع موسماً واحداً عام 1919م ، واتضح من الحفريات التي أجراها رايزنر أن الجبانة الوسطى تتكون من عشرين قبراً، في أعلى الهضبة، ستة عشر منها تؤرخ لفترة المائة ونيف السابقة للملك بيي (بعانخي)، (751-716ق.م) ودرج المختصون على تسميتها بقبور الأسلاف، وبالقرب منها أربعة قبور تم التعرف على أصحابها وهم حسب الترتيب الزمني، الملك بيي (بعانخي) والملك شباكا (716-702ق.م) والملك شبتاكا (702-690ق.م) والملك تانوت أمني (664-656ق.م). حكم الملوك الثلاثة الأواخر – يضاف إليهم تهارقو (690-664ق.م) – مصر والسودان لذلك أعطاهم المؤرخ المصري مانيتون مكانتهم في قائمة ملوك مصر فصاروا يكونون الأسرة الخامسة والعشرين.


تتكون جبانة الكرو من هضبة مقسَّمة بفعل الواديين اللذين يشقانها إلى ثلاثة أقسام، ويبدو أن الدفن في هذه الجبانة قد مرَّ بأربع مراحل، فقد كانت قبور الأسلاف عبارة عن أكوام ترابية دائرية الشكل تعلوها حفرة بيضاوية أو دائرية أضيف إليها في وقت لاحق سور في شكل حدوة الحصان، وإلى جانب البناء فوق سطح الأرض في بعض مدافن الأسلاف يلاحظ أن بعضها احتوى على مقصورات جنائزية بنيت من الطوب اللبن كما في القبر (Ku.tum.1). وقد بنيت هذه المقصورات في الجانب الشرقي، وهنا لا بدَّ أن نذكر أنه على الرغم من أن مدافن الأسلاف قد تعرَّضت خلال الحقبة الطويلة التي مرَّت عليها إلى عمليات مستمرة من النهب، إلاَّ أنها كانت تحمل تشابهاً واضحاً مع حضارة المجموعة (ج)، فتقليد بناء هذه المقصورة سبق أن ظهر في آخر فترة حضارة المجموعة (ج) حيث بنيت حجرات مستطيلة من اللبن في الجانب الشرقي لتوضع بداخلها القرابين.
إن الكيفية التي اتبعت في طريقة بناء مدافن الكرو الأولى، والعادات الجنائزية التي مارسها الزعماء الأوائل الذين دفنوا هناك كانت امتداداً للعادات الجنائزية التي كانت سائدة في الحضارات الكوشية القديمة خاصة حضارة المجموعة (ج) وحضارة كرمة، خاصة عادة الدفن على عنقريب. وكان اتجاه الدفن في القبور الأولى في الكرو “شمال جنوب” لم يكن تقليداً مصرياً، مما يدل على أنهم كانوا متمسكين إلى حد كبير بالتقاليد المحلية في الدفن، فالاستمرار في مثل هذه التقاليد أو العادات ربما يؤكد أهميتها المحلية واستمرارها لأمد طويل. تحولت البنى العلوية في هذه الأضرحة التلية منذ وقت مبكر إلى بنى عليا مستطيلة ذات مقصورات جنائزية، وحلت الحجارة المنحوتة بعناية محل الحجارة غير المشكَّلة، وظهرت فيما بعد الأهرامات ذات المنحدر والمدافن الفسيحة بدلاً عن الأضرحة الضيقة المحفورة في الصخر، وكان الموتى المحنطون يدفنون فيها داخل توابيت.
ظهرت الكتابة في مدافن الملوك بيي (بعانخي) وشباكا وشبتاكا وتانوت أماني بالإضافة إلى تهارقو. ومما يجب أن نلفت إليه النظر أن التاريخ الذي وضعه رايزنر لمقبرة الكرو هو منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، قد وجد تعزيزاً في البحث الذي قدَّمه تيموثي كندال بعد أن كلَّفته لجنة المؤتمر السابع للدراسات المروية بمراجعة المادة الأثرية في جبانة الكرو المحفوظة في متحف بوسطن، وقد أرسل بناءً على هذا التكليف عينات من المواد العضوية لمعامل متخصصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتحديد تاريخ جبانة الكرو، وكانت النتيجة أن المختبرات أعطت تاريخاً مطابقاً للتاريخ الذي حدده رايزنر من قبل.
إن القبور الأولى – أي الأقدم – كانت تأخذ أفضل الأماكن في الهضبة وهي الأماكن الأعلى، ولتأكيد صحة هذه الفرضية قام رايزنر بترقيم القبور التي في الأماكن العالية قبل بداية التنقيب وأعطى أعلاها الرقم (1)، وبعد الحفر وبمقارنة الطرز المعمارية المستعملة تأكد فعلاً أن هذا القبر (Ku-Tum1) هو الأقدم.
لا بدَّ أن نذكر أن جبانة الكرو تكاد تكون الموقع الوحيد الذي قدَّم أكبر دليل على استمرار تقاليد الدفن في الحضارات السودانية القديمة بدءً من الحضارات المبكِّرة إلى بداية فترة المملكة المروية.
كان الدفن الأخير في تواتر المدافن هو الخاص بالملك تانوت أمني آخر ملوك نبتة الذين حكموا مصر (664-653ق.م). اختار الملوك اللاحقون، متبعين نهج عم تانوت أمني وسلفه تهارقو، أن يشيِّدوا أهراماتهم بالقرب من هرمه في نوري على بعد 25 كيلومتراً تقريباً بأعلى مجرى النهر على الضفة المعاكسة، أصبحت مدافنهم الآن أكبر بأربعة مرات من حيث الحجم مقارنة بمدافن الكرو. بعد أن دفن الملك التاسع عشر في نوري اختار الملك العشرون – الذي لم يعرف اسمه – أن يكسر التقليد ويشيد هرمه وهرم زوجته في الكرو، ويبدو أن اختياره موقع الهرمين لم يكن أمراً عشوائياً، إذْ وضع هرم زوجته مباشرة أمام مدافن الملكات العظيمات للأسرة الخامسة والعشرين، أما مدفنه فأقامه أمام صف مدافن الأسلاف مباشرة بالقرب – وعلى الجانب الأيمن – لمدفن بيي(بعانخي). هذان الهرمان المتأخران (Ku.1) و (Ku.2) كانا الأخيرين بين المدافن الملكية التي شيدت في الكرو، ولكنهما يقدمان إثباتاً لاستمرار الأهمية السياسية للموقع والتوقير الذي حظي به على مدى ثلاثة قرون بعد أن توقف استخدامه.
تقف خمس مقابر هرمية للملكات على الجزء الجنوبي من الجبانة، تصطف أربعة منها من الشمال إلى الجنوب على ارتفاع عشرة أمتار، والخامسة بين العشرة أمتار وتسعة أمتار ونصف.
تم اكتشاف مقبرة للخيول على الطرف الشمالي للهضبة على بعد مائة وعشرون متراً شمال قبر بيي (بعانخي)، بها حوالي أربعة وعشرين حصاناً مدفوناً، تتكون هذه الجبانة من أربعة صفوف متراصة، صفين في كل منهما أربعة خيول، وصفين في كل منهما ثمانية خيول. كانت قبور الخيول في مسافة متساوية تفصل بعضها عن البعض، ودفن كل حصان واقفاً ورأسه نحو الجنوب. تنسب خيول الصفين الثاني والثالث من تمائمها إلى شباكا وشبتاكا، أما خيول الصف الأخير فترجع إلى تانوت أمني، بينما تعود خيول الصف الأول لـ “بيي” (بعانخي). تعرَّضت جُل المحتويات في قبور الخيول للنهب ولم تترك سوى بعض الشكائم وحاملات الرياش ورباط الرأس الفضية وحبات العقود والتمائم، تشير إلى أن الخيول كانت تؤلف فرقاً من العربات الملكية، رغم أنه لا توجد أدلة على دفن العربة مع الخيول ، خاصة أن القبور كانت ضيقة جداً.

المراجع:

1. تيموثي كندال: “أصل الدولة النبتية: الكرو والبيئة الخاصة بالأسلاف الملكيين” مجلة الآثار السودانية ، العدد الثامن ، يوليو 2006م ، ترجمة أسامة عبد الرحمن النور.
2. تيموثي كندال، “ملوك الجبل المقدس : نباتا وأسرة الكوشيين” في معرض السودان ممالك على النيل، إشراف دييتريش فيلدونغ ، ترجمة بدر الدين عروكي، باريس 1996-1998م.
3. سامية بشير دفع الله ، تاريخ الحضارات السودانية القديمة منذ أقدم العصور وحتى قيام مملكة نبتة ، دار هايل للطباعة والنشر ، الخرطوم 1999م.
4. العباس سيد أحمد محمد علي وعبد القادر محمود عبد الله ، “أصل الأسرة الخامسة والعشرين لمصر كما تعكسه الجبانة الملكية السودانية في الكرو” مجلة الدراسات الإنسانية، جامعة دنقلا، كلية الآداب والدراسات الإنسانية، العدد الثالث، يناير 2010م.
5. علي أحمد قسم السيد ، الأهمية الأثرية والتاريخية لجبانة الكرو الملكية 1982م ، ترجمة سارة حسن محمد إسماعيل البيلي ، جامعة الخرطوم ، 1998م.
6. عمر حاج الزاكي، مملكة مروي التاريخ والحضارة، منشورات وحدة تنفيذ السدود، إصدارة رقم (7) ، ط1 ، مطابع الصالحاني ، دمشق ، 2006م.
7. فرانسيس جيوز : “عادات الدفن في وادي النيل الأعلى : لمحة عامة” مجلة الآثار السودانية ، العدد الرابع، فبراير 2003م ، ترجمة أسامة عبد الرحمن النور.
8. وليام آدمز ، النوبة رواق أفريقيا ، ترجمة محجوب التجاني محمود ، ط2، القاهرة ، 2005م.
9. Dunham. D., 1950 : The Royal Cemeteries of Kush . Vol. 1. El Kurru, Harvard. University Press, Cambridge.
10. Dunham. D., 1953 : Form Tumulus to pyramids and back Archaeology. Vol. 6. Boston.
11. Adams. W.Y., 1984 : The first Clonial Empire, Egypt In Nubia 3200-1200BC, CSSH. Vol. 26. No. 1, University of Kentucky.
12. Arkell. A.J., 1961 : A History of the Sudan From the Earliest Time to 1821. Second Edition. London.
13. Trigger. B.G., 1967: Nubia under the Pharaohs. Thames and the Hudson. London,
14. Kendall T. 1996 : “The Origins of the Napatan State A Paper Presented In the 7th International Conference” for Meroitic Studies, Berlin.
15. Reisner. G.A., 1918. Known and Unknown Kings of Ethiopia” Museum of Fine Art Bulletin, Vol. 97, Boston.

-أستاذ التاريخ القديم بجامعة دنقلا
[email protected]

تعليقات
Loading...