عثمان جلال يكتب: اليسار والثورة السودانية..

مرايا برس

ينزع التحالف اليساري والذي يهيمن على إدارة المرحلة الانتقالية في السودان إلى التغلغل في مؤسسات جهاز الدولة الإيديولوجي وذلك لتمكين ذواتهم ومشاريعهم الفكرية لتعظيم حصصهم في العملية الانتخابية القادمة ، وهذا سلوك ينم عن استبدال استبداد باستبداد وإقحام الإيديولوجيا في صناعة الثورات وفي مرحلة ما بعد الثورات يؤدي إلى  تصفية الثورة، اما بسيناريو إعادة النظام القديم، أو اختزالها في ايديولوجيا أحادية (الثورة الروسية والكوبية والايرانية )، أو الوقوع في اتون الحرب الأهلية، أو تنازل المجتمع عن حريته مقابل الأمن لمستبد جديد، والثورات العميقة ينبغي إداراتها بايديولوجيا القضايا الوطنية الكبرى، والشراكات وروح التوافق البناء، وهنا تكمن عبقرية المساومة وقديما قال لينين (ليس الثوري من تفاخر بأنه لن يساوم ابدا بعض النواجذ على مبادئه ولكن هو من يساوم متى كان لا مهرب من المساومة).

 هكذا دخل البلاشفة الدوما القيصرية الرجعية الثالثة والرابعة، وبعد ثورة فبراير 1917 ارتضوا المهادنة مع حكومة الثورة الأولى بقيادة ميليكوف، والثانية بقيادة كيرنسكي، حتى عاد لينين من منفاه بسويسرا ولكن بدلا من المضي في المساومة بوعي استراتيجي يحافظ على زخم وتنوع الثورة الروسية، وتعميق روح التوافق والشراكة خلال الفترة الانتقالية، قاد لينين الثورة المضادة من بتروغراد واسقط حكومة التحالف الثوري بقيادة كيرنسكي بشعارات متدرجة بدأت بكل السلطة للسوفياتات، ثم كل السلطة للبلاشفة، ثم دكتاتورية البرولتاريا والتي انتهت إلى دكتاتورية دون برولتاريا، واجمع فقهاء الثورات أن حكومة الحلف الخليط الثوري بقيادة كيرنسكي كانت ستضع روسيا في مسارات الانتقال الديمقراطي المستدام، وقد ادركت الأحزاب الاشتراكية في أوربا الغربية بعد حوارات التنقيحية العميقة بضرورة المساومة وارتضت عملية التغيير الديمقراطي والمستمر من داخل مؤسسات الحكم الرأسمالية مما وضعها في دائرة النقد اللينيني اللاذع حيث وصف تلك المساومة بالتحريفية، وأثبتت التجربة صحة مساومة الأحزاب الاشتراكية  في أوربا الغربية، فالافكار تكتسب النضج، والتطور والاستمرارية في فضاءات الممارسة التواصلية والتفاعلية مع الآخر وتصاب بالجمود والتكلس في إطار السيادة الأحادية المطلقة وقديما قال هيغل أن التاريخ ماكر ويضمر الشر لما لا يتعظ منه.

يدرك التحالف اليساري المتحكم في مسارات الفترة الإنتقالية في السودان أن البنية التحتية للمجتمع السوداني يمينية الهوى والهوية وأي إسقاط فوقي لهذه البنية والإجتماعية والثقافية في شكل ممارسة ديمقراطية شفافة فإن النتيجة ستكون محسومة لصالح مدرسة اليمين الفكري والسياسي والإجتماعي، ووفق التحليل الطبقي للمجتمع السوداني يدرك التحالف اليساري الحاكم استحالة الانقضاض على الحكم بالنموذج الصيني أو الروسي، كما يدرك التحالف اليساري استحالة إستلامه السلطة بسيناريو الانقلاب العسكري وفق(النموذج السوري والعراقي) فالمؤسسة العسكرية السودانية ليست بمعزل عن عملية التحليل الطبقي للمجتمع السوداني كما ذكر المرحوم عبد الخالق محجوب في حواره مع تيار اليائسين والمغامرين الذي كان يرى ضرورة استعادة أهداف ثورة أكتوبر بالتحالف بين الطبقة العاملة والجيش وصدقت نبوءته عند فشل وإحباط انقلاب المرحوم هاشم العطا.

كما يدرك التحالف اليساري الحاكم أن فشله في إدارة المرحلة الانتقالية يعني فشله الحتمي في الانتخابات القادمة، كما يدرك التحالف اليساري أن المحاور الإقليمية والدولية والتي توظفه حاليا لتصفية الإسلاميين من مفاصل الدولة لن تسمح بصعوده للحكم بالاستلاب أو الانتخاب، بل يدرك التحالف اليساري الحاكم أن تناقضاته الداخلية الاستراتيجية ستعصف بتحالفهم الهش عاجلا أو آجلا حتى وإن تمكنوا من الهيمنة على  الحكم.

كما يدرك التحالف اليساري الحاكم انه مهما استطالة الفترة الانتقالية واستوت على انتخابات حرة وشفافة فإن المحصلة هي سقوطه الحتمي، كما يدرك التحالف اليساري الحاكم أن الذهنية والسلوك السياسي الذي يدير به المرحلة الانتقالية يقفان على تضاد مع برادايم الثورة العميقة ، وعبر التاريخ فإن الثورات التي تقودها أقليات فكرية واجتماعية اما ان ترتد إلى نظام استبدادي جديد أو إلى فوضى وحرب الكل ضد الكل وانهيار الدولة .

إذا هذا التحليل والعصف ينم أن التحالف اليساري الحاكم في السودان يعاني من أزمة فكرية عميقة وجوهرها حالة الخندقة والتمترس وراء نماذج فكرية وتجارب سياسية استيأس منها المجتمع في مظانها ومنابتها الأولى وشيعها باللعنات والدم والدمع الثخين، وإعادة إنتاج التاريخ حمق وقلة حيلة ومهزلة، ولذلك فإن التحالف اليساري الحاكم في حاجة إلى تجديد بناؤه الفكري استيعابا للخصوصية السودانية، وفي حاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات بتقديم قضايا البناء الوطني على مشاريعهم الذاتية، وفي حاجة إلى إدراك ان أولوية القضايا الوطنية تقتضي المساومة والتوافق مع الشركاء في الوطن لإنجاز المشروع الوطني الديمقراطي الذي يسع الجميع، والتحالف اليساري الحاكم في حاجة إلى ادراك أن استدامة النموذج الديمقراطي يتطلب استدامة الشراكة الاستراتيجية مع الشركاء الوطنيين بكل تبايناتهم الفكرية والدينية فالمشروع الوطني الديمقراطي يعلو ولا يعلى عليه، وفي إطار المشروع الوطني الديمقراطي المستدام والمستمر، حتما ستتحرر الاحزاب السياسية من نزعاتها الأيديولوجية المثالية وصولا إلى أحزاب سياسية ذات خصوصية سودانوية تتنوع في أهدافها وبرامجها ولكنها تصب في نهر النهضة السودانية القادمة بإذن الله.

تعليقات
Loading...