عالم التشرد..قصص مأساوية واعتداءات جنسية والبقاء للأقوى.

الخرطوم: رجاء شوكت

قصص وروايات تراجيدية تقطع نياط القلب روتها أفواه أطفال ركلهم الفقر إلى براثن الشارع الذي يحكمه (قانون الغاب) . ومنطق (البقاء للأقوى).. منهم من قضى نحبه تحت عجلات السيارات المسرعة أو قبضات القساة منهم أو بفعل السلسيون بعد ان تهتكت رئاتهم..
-قانون الغاب..
فكرت ملياً قبل أن أختار المجاري سكناً.. وبقايا المطاعم طعاماً، وشلة السلسيون أصدقاء.. ضقت ذرعاً من صراخ أمي ليلاً عندما تنهال عليها قبضة أبي «الثمل».. كنت أبكي عندما أرى أخواني الصغار يتكورون في ركن قصي في غرفتنا الشبيهة بحظيرة الأغنام، مرتعبين من صوت أبي الذي يسب أمي ويرميها بالألفاظ النابية.. كنت أشعر بأنني أعيش في مستنقع قذر.. جوع حتى الأغماء بالنهار.. وخوف حتى الصدمة ليلاً.. هكذا سرد يونس حكايته الشبيهة بالأفلام.
يونس شاب له من العمر أحد عشر عاماً ، خرج من بيت أسرته هائماً على وجهه وهو ما يزال صبياً في السابعة، ساقة قدره إلى قاع المجتمع (المتشردين) مجتمع لا رحمة في قاموسه.. يحكمه قانون الغاب «القوى يأكل الضعيف». آلاف الأطفال في عمره وأقل اختاروا الشارع هرباً من جبروت وقسوة الأسرة وسياط الظروف المعيشية.. منهم من كتب له الصعود إلى القمة ومنهم من لقى حتفه (بشمة) سلسيون أو تحت عجلات سيارة مسرعة وبات جسده (حقل تجارب) في كليات الطب!!
-دموع الحرمان..
جاءت رواياتهم تبللها دموع الحرمان من دفء الأسرة وحنان الأم والأب. وسنوات الخوف التي ما زالت عالقة في أذهانهم. فأكثرهم ركلته قسوة الأسرة إلى أتون الشارع الأكثر قسوة، وقذارة.. وبالرغم من رائحة المجاري النتنة وفضلات الأطعمة.. وخشونة المرقد إلا أنهم فضلوا حياة «الشمس» على حياة الظل والجدران كما سردوا لنا ،بأن قلوب ذويهم أكثر تحجراً من قلوب عتاة المجرمين في الشارع، الطفل سمؤال محمد الفكي قال: كنت في الخامسة.. أمي كانت تصحبني إلى السوق لأتسول معها، منذ الفجر حتى مغيب الشمس، لا أدري كيف كنت أحتمل رهق السير والتجوال كل هذه الساعات، أثناء وجودنا في السوق كانت أمي تبتاع لي «ساندوتش» طعمية.. بعده أتناول كوباً كبيراً من الماء لأسد فجوة الساندوتش الذي لا يكاد «يسلك معدتي».. وعندما أعود إلى البيت بعد الغروب أبحث عن أقرب فراش أرتمي فيه لا استيقظ بعده ألا في الصباح ويمضي بقوله – أول مشهد تستقبله عيناي معركة أبي مع أمي، حينما ينتزع منها ما «جمعته» البارحة ولا يترك لها سوى أجرة المواصلات.. مللت العيش في هذا الجو.. ويواصل قائلاً: أثناء تواجدي مع أمي في السوق كنت أراقب أولاد في سني يدخنون السيجارة ويحملون قطعة قماش يضعونها في فمهم.. ولكن كنت أتقزز من ثيابهم البالية، رويداً رويداً بدأت أتقرب إليهم وأسألهم عن النقود التي يشترون بها السيجار فيقولون «نشتغلو في المطاعم» راقت لي هذه الفكرة.. فكرة العمل في المطاعم.. فقلت لأمي أريد ان أشتغل فأنتهرتني قائلة: أصمت لا أريد أن أسمع منك حديثاً كهذا، وفي ذات يوم قررت أن أهرب منها.. وأنضممت إلى شلة كانوا يتجولون أمام المسجد الكبير في السوق العربي- ووجدت أن حياتهم ليست بها قيود تنام أينما وكيفما أردت- تتناول طعاماً شهياً مقابل جهد قليل، وخوفاً من أن تعثر علي أمي هربت إلى أم درمان، وهناك وجدت جيشاً من أولاد الشوارع يعملون في حمل عدة الشاي لبائعات الشاي مقابل مبلغ محترم. ولكن بالرغم من الحرية إلا أنني كنت أفتقد الحماية أعيش في خوفٍ دائم- كنا ننام في أسقف الدكاكين بعد عودتنا من السينما بعد منتصف الليل.. كان الكبار يعتدون علينا.. لم نكن نجد من يحمينا.. تعلمت تعاطي «السلسيون» أحياناً أغيب عن الوعي طوال النهار.. حياة قاسية مليئة بالخوف والفزع.. وبعد أن تركت الشارع ودخلت الى دار التقويم بتنا نتوق إلى حياة الشقاء .. ولكن مع مرور الوقت ألفنا المكان والحمد لله تعالجت من ادمان «السلسيون».. وأزور أهلي أحياناً والآن بدأت أشعر بعد أن قضيت وقتاً طويلاً هنا بأنه يمكنني أن أعمل عملاً شريفاً وأسس أسرة، وسوف أتعامل مع أبنائي برفق حتى لا يذوقوا مرارة القسوة مثلنا ويهربون.
المتشرد الموهوب يونس شاب هادئ الطبع يتحدث بإقتضاب صاحب أنامل ذهبية يمتلك موهبة فذة في الرسم.. ورغم القسوة التي عاشها في الشارع إلا أنه يحمل أحساساً متسامحاً، وريشته تسرد فناً راقياً على نقيض «العتمة» التي وجد فيها نفسه وهو ما زال يافعاً بعد أن لفظته حياة الفقر والبؤس وجبروت الأب إلى بحر ملئ بالقاذورات من إعتداء وإدمان وسرقة وخوف من أي شئ.. يونس خرج من بيت الأسرة صوب الشارع وهو ما يزال في السابعة من عمره هرباً من غضب ووحشية والده الذي يعود بعد منتصف الليل «مخموراً» ويعربد بقبضته في إجساد اشقائه ووالدته .. وفي الشارع وجد يونس نفسه في وجه.. اللا إنسانية شكلاً ومضموناً.. كل شئ فيه بالٍ ، حتى الإحساس بالخوف يمتزج بالقذارة.. وشخبطاته على الجدران تعبر عن الرعب الذي يعيش فيه ،بعد أن صمت طويلاً استرسل قائلاً: «أول مرة منذ وعيت على الدنيا.. أنام ملء جفني، في اليوم الأول الذي دخلت فيه دار للإيواء قبل سنوات شعرت بأنني ولدت من جديد.. لذا لم استسلم للإنكسار الذي أحدثته حياة الأسرة أو الشارع. قررت أن أكون شيئاً ذا قيمة وبدأت أطل على الحياة الهادئة الجميلة من خلال ريشتي.
-حكاية عواطف..
يمتلك الرجل قدرة التعايش في مجتمع قانونه «القوي يأكل الضعيف».. بتركيبته البيولوجية والجسدية. لذا تمثل «المرأة» حالة شاذة في مجتمع يعتمد فيه على إثبات الذات والبقاء بقوة العضلات، وتمثل «عواطف » ذات الثلاثة عشر ربيعا حالة شاذة بالرغم من وجود الكثيرات مثلها في الشارع مأواهن المجاري ومعيشتهن النشل، روت لنا حكايتها وتجربتها في الشارع بعد ان تركت أسرتها بسبب رفضهم لعريس تقدم للزواج منها تقول: هربت من أسرتي وانا في سن الحادية عشر وآثرت أن أعيش في محيط لا قيود فيه ولا أوامر.. حسبت في أول الأمر أن العيش في الشارع يمنح الشخص الحرية ولكن وجدت ان بالشارع آلاف القيود.. أولها الخوف من كل شئ من الإعتداءات الجنسية.. والإغواء.. ومطاردات الشرطة والإعتداء بالضرب إذا لم ترضخ لمطالب «المهجوري» والمهجوري لقب زعيم المنطقة فهو يأخذ كل شئ دون مقابل.. والشارع تجد فيه القساة واللطفاء واللصوص وعتاة المجرمين.. وقد عشت تجربة مريرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. تعرضت للضرب.. والإعتداء.. ولكن كنت أمتلك قوة في الشخصية أقرر لمن أعطي المال وممن أمنعه، حتى لو تعرضت للضرب والركل لذا أحياناً كنت أجد الإعجاب من صديقاتي بنات الشارع اللآئي يرضخ أكثرهن للطلبات دون إبداء أي رفض .. وقد كانت نهاية معاناتي وخوفي الدخول الى مركز للفتيات بأم درمان.. وجدت الطمأنينة والنوم بسكينة .. وحقيقة أنا ندمت على الخروج من منزل أسرتي وأقول للأسر لا تقسوا على أبنائكم أو بناتكم حتي لا يتعرضون للمتاعب كما نحن .. والآن أريد أن أعود إلى أسرتي بعد أن وعيت الدرس.

تعليقات
Loading...